النهروان هي إحدى نواحي مدينة بغداد الجنوبية الشرقية، وعلى رغم أنها تعتبر من المناطق الصناعية المهمة، تعيش غالبية سكانها (نحو 150 ألف نسمة) تحت مستوى الفقر بكثير.وتشتهر النهروان بصناعة الطابوق ودباغة الجلود إذ يوجد فيها أكثر من 1000 معمل لصناعة الطابوق وعشرات المدابغ، وغالبية سكانها يعملون في هذه المعامل بأجور لا تكاد تسد رمق العيش. ويقول أحمد علي (70 سنة) صاحب متجر متواضع في النهروان ان «مئات الصبية والفتيات من اهالي النهروان لا تتجاوز اعمارهم عشر سنين يعملون ساعات طويلة من الفجر حتى المساء في معامل الطابوق والدباغة لتوفير ما يسد حاجة عائلاتهم تاركين مدارسهم». والواقع الاقتصادي المتردي في النهروان حوّلها خلال السنوات الماضية الى بؤرة عصابات امتازت بسرقة السيارات، فيما اصبحت المنطقة ساحة نزال يومي بين مليشيات شيعية وسنية تنازعت سنوات من اجل السيطرة عليها. ويقول محمد الحريشاوي احد العمال في معمل الطابوق في النهروان انه هو ورفاقه من العمال يتعرضون الى حالات موت بطيء «بفعل التسمم من مداخن وافران الطابوق والمدابغ»، ويتابع: «ندفع ثمن التلوث آلاماً وامراضاً واصحاب المعامل يجنون الملايين من واردات الطابوق». ويتهم الأجهزة الحكومية والصناعية «بعدم متابعة تنفيذ المواصفات البيئية المطلوبة في ابنية المعامل»، مشيراً الى وجود «مخالفات خطيرة على الصحة العامة». ويضيف: «ابراج المعامل التي تبث السموم غير خاضعة للرقابة وغير مطابقة للمواصفات وبعضها لا يتجاوز طوله عشرة امتار في حين يفترض ان يكون (ارتفاعه) 30 متراً على الأقل مع نصب فلاتر تنقية تمنع خروج الدخان بهذه الصورة». ويزيد: «نحن في النهروان نستنشق نفطاً اسود تعرض الى الحرق ساعات وبإمكان الجميع ان يتصور الغازات المنبعثة من احتراق كهذا». ويقول الحريشاوي: «وجوهنا سود مليئة بالسخام بسبب المعامل ولا نملك حلاً». ويلفت الاهالي الى ان هناك خطة لإنشاء 50 معملاً قرب الناحية وعلى بعد 3 كيلومترات عن «مستشفى النهروان» ما يعرض المستشفى والمرضى الى التلوث، مشيرين الى ان المستشفى الوحيد في الناحية، لا يعدو كونه مستوصفاً قديماً يضم ردهة بثمانية أو عشرة أسرة. ويؤكد احد اطباء المستشفى، فضل عدم ذكر اسمه، ان «حالات الاختناق التي يتعرض لها اهالي النهروان شبه مستمرة وعلى مدار ايام السنة فما دام هناك طابوق يشوى تجد المستشفى يعج بزواره». ويشير الى ان «المساعدة الطبية التي يقدمها كادر المستشفى غالباً ما تكون اسعافات اولية لحالات الاختناق التي يستقبلها المستشفى بكثرة، وهي لكثرة ما تتكرر باتت معروفة للجميع، وجميع موظفي المستشفى وعمال التنظيف فيه، باتوا يقدمون هذا النوع من الاسعافات». احدث المعامل في المنطقة رفع علامة كبيرة على انه مصنع نموذجي ومطابق للمواصفات لكن واقع الحال يشير الى غير ذلك. ويقول احمد جمعة ( 12 سنة) احد عمال المصنع من اهالي الدغارة القريبة ان أجره اليومي لا يتجاوز الفي دينار (نحو 1.25 دولار) في عمل يمتد من 14 الى 16 ساعة يومياً. ويشير الى ان عائلته بالكامل تعمل هنا «وافرادها موزعون على المهن المختلفة وهو يعمل «سواك» (سائق حمير). ويكشف عن تفاصيل مهنته: «اقوم بإجبار الحمير التي تعزف عن العمل وترفضه جراء نوعيته فنقوم بإرجاعها الى العمل وإدخالها في طابور استلام وتسليم الطابوق». ويجد لها العذر في محاولة التنصل من العمل لكون «العمل متعباً والحمار من حقه النفور منه فهو روح ودم ولحم وله قدرة محددة على التحمل». يقاطع احدهم احمد، وبثقة تعكس سلطته يقول ان موقعه في المعمل هو «الكندير»، (المفوض من قبل صاحب المعمل بكل الأمور) وهو الذي يدير العمل ويرفع التقرير النهائي الى صاحب العمل. ويذكر «الكندير» ان «صاحب العمل لا يدخل المعمل كثيراً واحياناً يغيب شهوراً». ويضيف: «انا مسؤول هنا عن عجين الطابوق ونشره وشويه وتحميله، أي ان مراحل صناعة الطابوق تكون بإشرافي وحتى التحميل وانا الذي احدد أجور العمال وايام الاجازات ولكن وفق سقف مالي متفق عليه مع صاحب العمل وباقي المعامل». مهنة اخرى في المعمل تسمى «النواشير» وهي مهنة تتولاها النسوة، تقوم بها فتيات لم يتجاوزن عقدهن الثاني من العمر. و «النواشير» يرفضن الحديث الا بموافقة «الكندير» خوفاً من العقوبة لكن زينب علي، من مدينة الدغارة، تبادر في النهاية الى الحديث: «اعمل قرابة 15 ساعة في اليوم واقوم بنشر الطابوق في الساحة وسط الدخان والغبار واستلم الطابوق من الحمار وانشره بشكل افقي كي يجف». أجر زينب الاسبوعي هو 25 الف دينار (نحو 20 دولاراً) اما عن احلامها فتجيب بسخرية لاذعة: «علي ان اشبع بطني اولاً ومن ثم احلم». ومن المهن الاخرى في معمل الطابوق مهنة «الساجوج» الذي يأخذ على عاتقه حمل الطابوق على «سكة» محددة تقف عند نهاياتها الحمير المكلفة لتنقل الطابوق الى «النواشير». ويكشف مصطفى عن المخاطر التي يتعرض لها مع زملائه الآخرين في المعامل قائلاً: «مصير كل العاملين هنا هو الإصابة بالسل الرئوي والمشكلة ان صاحب العمل غير مسؤول عن علاجنا». ويكمل: «صاحب العمل يتكفل براتب اسبوعي واحد للعامل الذي يمرض ومن ثم يأمره بالمغادرة ويأتي ببديل له ان وجد». شخصية مهمة اخرى في المعمل اسمها «الشاعول» وهو في المعمل «النموذجي» اسمه «ابو سعد» اختفت ملامح وجهه بسبب نار الأفران يقول ممازحاً: «لا احد يعرفني الا اهلي وزملائي في العمل لاختفاء ملامحي، مهنتي هي اشعال النار في الأفران وانا اكثر العاملين تماساً مع الدخان». علاء عبد الصاحب رئيس المجلس البلدي في النهروان يطالب مع مجموعة من الأهالي في البلدة، بالحد من اضرار معامل الطابوق، معترضين على موافقة الحكومة على اقامة 50 معملاً جديداً في منطقة اقرب الى تجمعاتهم السكنية من مجمع المعامل القديم. ويقول جمعة الركابي (موظف) انه «في حال انشأت المعامل الخمسين فعلى الدولة ان توفر لنا مساكن بديلة»، مشيراً الى ان «البلدة برمتها ستكون معمل طابوق وسنكون موتى نمشي على الارض». ويتساءل عن كيفية الحصول على الموافقات على تنفيذ هذه المشاريع، ويقول: «اعترضنا عليها في وزارة البيئة ومجلس المحافظة السابق وقدمنا مئات التقارير عن ضرر المعامل وهي على بعد 12 كيلومتراً عن منازلنا فما بالك بالمعامل التي تبعد عنا 3 فقط». بيوت النهروان التي تتداخل مع معامل الطابوق والدباغة لاتصلح حتى ان تكون اصطبلا للخيل بحسب سكانها بسبب رداءة الشروط الصحية والبيئية، فالعائلات الكبيرة تسكن غرفة واحدة طولها ثلاثة امتار وعرضها متران ومشيدة من مخلفات الطابوق أو الطابوق المحروق ولا توجد دورة مياه اصلاً والاستحمام هناك يكون مرة الشهر. وتقول الطفلة زينب، (6 سنوات) انها «لم تغتسل منذ شهرين».