لمحتُ صورة بروس لي على غلاف مجلة ذات يوم في 1996، حين كنت أجول في واحدة من محطات بوينس ايريس. ولطالما عشقت افلامه. والهالة التي تلف هذا النجم لم تتبدد على رغم مرور عشرين سنةعلى وفاته. أدركت أن وراء نجوميته المزمنة عدداً من العناصر. فهو خالف نهج غيره من ممثلي افلام الكونغ فو الذين كانوا في معظمهم مقاتلين ذكوريين، وأكبر سناً منه. وكان فاتناً واثقاً من نفسه ويجيد الانكليزية. وغيّر أداؤه صورة البطل الصيني المقاتل، وأدخلها الى عالم الحداثة. بروس لي تابع تحصيله العلمي في الغرب، ولم يلتزم قواعده بل فهمها وحلّلها ليخالفها. كان في مقدوره تقديم أكثر افكار فن القتال الصينية تعقيداً تقديماً مبسطاً. وأنا الذي كان شاغلي في مهنتي تصوير النساء في الافلام، وددت ان اخرج فيلماً عن جمال هذا الرجل الصيني. وفيلم «غراندماستر» لا يدور على بروس لي فحسب. فالممثل الراحل لم ينفك عن الاستشهاد في مدوناته ومقترحاته بإيب مان، معلمه في الفنون القتالية، لذا، سلطت الضوء على المعلم هذا. فحياته هي مرآة شطر من التاريخ الصيني في القرن العشرين. فهو ولد في العهد الملكي، وعاش في عهد الجمهورية، وشهد الحرب الصينية – اليابانية، وانتهى به الامر الى النزول في المستوطنة البريطانية السابقة، هونغ كونغ. ويتناول تتبع حكاية إيب مان جوانب من التاريخ الصيني. وفي 1998، وقعتُ اثناء تفكيري في وجهة تناول سيرة بروس لي ومعلمه، على شريط وثائقي خلّف اثراً بالغاً بي. ففي مشهد يظهر إيب مان المسن يؤدي أمام عدسة كاميرا حركة وينغ شون قبل ثلاثة ايام من وفاته. وفي نهاية المشهد، يطالب بوقف التصوير فتبتعد الكاميرا لكنها تظهره من بعيد واقفاً كما لو أنه نسي الحركة التالية التي يفترض به اداؤها، او ربما هو لم ينسها، لكن قواه خارت وخانته. والمشهد يبعث على الاضطراب، والوثائقي هذا اسطوري. فيوم كان حياً يرزق، طلب كثر من إيب مان، ومنهم بروس لي، تعليمهم هذه الحركة، وعرضوا عليه مبالغ مالية كبيرة لكنه رفض. وسوّغ رفضه بالقول ان نقل اصول القتال الى مجموعة من طلابه خير من نقلها الى شخص واحد في صفقة تجارية. واطلاعي على هذه المعلومات حملني على حسم وجهة الفيلم الذي سأخرجه: رواية قصة ارث من النبل والكرم وثيق الصلة بقدرة هذا الرجل، ايب مان، على نقل الامانة الى الجيل المقبل. وأرجأتُ اخراج الفيلم أكثر من مرة، فهو يقتضي وسائل انتاج لا يستهان بها. وانتظرت تعاظم نمو سوق السينما الصينية ليكون في مقدوري انتاجه بموازنة كبيرة. وليس يسيراً الطلب من ممثلين مثل وانغ زيي وتوني لونغ، التمرن طوال سنة على حركات قتالية، وتخصيص سنتين لتمثيل الفيلم. وبدأتُ التصوير قبل اكتمال السيناريو مستنداً الى سيرة ايب مان. وهي قصة إرث متناقل وعلاقات عمودية وأفقية، وحكاية معلم كبير من الجنوب وآخر من الشمال يتضح لاحقاً انه امرأة متخفية في وقت كان محظوراً على الإناث اكتساب الفنون القتالية. والشخصية هذه من بنات الخيال. وكسر توني لونغ ذراعه في أول يوم تصوير، فاضطررت الى تغيير برنامج التصوير، وانتقلت الى الشمال لتصوير الشخصية النسائية. فتمددت حصة القسم هذا من الفيلم، وصارت أطول وكثيرة التفاصيل. أترك الرواية في افلامي مشرّعة على الاحتمالات. لذا، لا أتقيد بنص سيناريو كامل و «مغلق». فمصير الشخصيات غير مرسوم مسبقاً، وهو يرتسم مشهداً بعد آخر. وأترك سياق الحوادث «على سجيته». وكل ما أعرفه حين بدأت التصوير ان الفيلم ينتهي بتوجه توني لونغ الى هونغ كونغ لإنشاء مدرسة فنون قتالية، لكن الدرب المؤدي الى الخاتمة هذه غامض ومجهول. وأنا أُسلم الفيلم الى المصادفات وبناتها. فعلى سبيل المثل، اضطرنا كسر الممثل الرئيسي ذراعه الى التوجه شمالاً في موسم الشتاء البارد لتصوير مشاهد قتال في الهواء الطلق في ظل حرارة بلغت عشرين تحت الصفر. وفي وقت لاحق، عاد فريق التصوير الى الشمال لاستكمال المشاهد في قيظ الصيف، فاضطر الممثلون الى ارتداء معاطف فرو على رغم ان درجات الحرارة فاقت الأربعين. وعملية الإخراج والتصوير هذه لم يشبها توتر. فالصدوع بتنافر الامور وخروجها عن سيطرة المرء، من ابرز قيم الفنون القتالية. لذا، تخففت من الاصول التقنية، وانطلقت في التصوير من غير بنية راسخة، وتركت سياق المشاهد يقودني. ويبدو أن فيلم «غراند ماستر» هو الأخير المطبوع على فيلم فوجي. وفي فصله الاخير، وصلتنا شحنة من افلام التصوير مع رسالة من فوجي تعلمنا أنها لن تسلمنا بعد اليوم مثل هذه الافلام، فهي توقفت عن انتاجها. فقررت أن أختم الفيلم والاحتفاظ بالشحنة هذه ذكرى لأيام خلت. و «غراند ماستر» يدور حول تنافس بين كبار أسياد الشمال والجنوب الصيني، وفلسفة كل منهم الخاصة. وأرى انه صورة مجازية عن اقطاب الشمال والجنوب في الصين المعاصرة. ففي المشهد الاول، يحسب المشاهد انه يتابع قصة التاريخ الصيني. ولكن، مع توالي المشاهد، يُدرك ان الفيلم يحكي قصة هونغ كونغ وائتلافها من موجات الهجرة من الصين القارية على وقع اضطرابات تاريخية. وجددت الحروب والتغيرات السياسية في الصين شباب سكان الجزيرة، ومدّتها بموارد مالية. * مخرج سينمائي، عن «ليبيراسيون» الفرنسية، 17/4/2013، إعداد منال نحاس