"دار وإعمار" ترتقي بتجربة التملك العقاري وتؤكد التزامها برفع جودة الحياة في المملكة    الاتفاق يضم الجنوب إفريقي موهاو نكوتا حتى 2028    الشورى يطالب" المنافسة" بتطوير آليات مواجهة الاحتكار    الطاقة المتجددة في المملكة تتجاوز 6.5 جيجاواط من القدرة التشغيلية    القيادة تهنئ رئيس الجمهورية الفرنسية بذكرى اليوم الوطني لبلاده    "اعتدال"و"تليجرام" يكافحان التطرف الرقمي بإزالة 30 مليون مادة متطرفة    مانجا للإنتاج تُبرز المحتوى السعودي في بطولة كأس العالم للرياضات الإلكترونية بالرياض    تعامد الشمس على الكعبة المشرفة غدا الثلاثاء    الصناعة والثروة المعدنية تُصدِر 155 ترخيصًا صناعيًا جديدًا    «العدل» تنهي خدمات بعض موظفي فريق جاك سميث ترامب يطارد رجال استخبارات سربوا معلومات سرية عنه    بعد انتهاء أزمة «الغواصات».. استئناف التعاون الدفاعي بين فرنسا وأستراليا    توثيق دولي جديد.. السعودية الأولى في نمو إيرادات السياح الدوليين    600 تخصص بالكليات التقنية والمعاهد في عام 2024    تشيلسي بطلًا لمونديال الأندية    فريق "VK Gaming" بطلاً لمنافسات لعبة "Apex Legends" في كأس العالم    11 لاعباً سعودياً يشاركون في بطولة العالم للبلياردو بجدة    موجز    في اعتداء خطير على المدنيين.. "الدعم السريع" يرتكب مجزرة شمال كردفان    "تقويم التعليم": بدء التسجيل لاختبار القدرة المعرفية    مركز المصالحة يعزز ثقافة التسوية الودية    القبض على 21 مهرباً ومروجاً في عسير وجازان    جدل حول تصريحات المبعوث الأمريكي.. الجيش اللبناني: لا مسلحون في المناطق الحدودية مع سوريا    عرض«روكي الغلابة» 30 يوليو    تدشين الخطة الإستراتيجية "المطورة" لرابطة العالم الإسلامي    لتعريف الزوار ب«الأثرية».. جولات إثرائية لإبراز المواقع التاريخية بمكة    المحتوى الهادم.. يبدأ بحجة حرية التعبير وينتهي بضياع القيم    100 مليون مشاهدة في يوم    حكم قضائي مغربي ضد WhatsApp    ترجمة مسرحية سعودية للغتين    الكركديه من مشروب تراثي إلى ترند في مقاهي جدة    القهوة تقلل خطر الإمساك    مسارات صحية تحذيرية تؤدي إلى الخرف    فيرمينو يرتدي قميص السد    الملك سلمان للإغاثة يواصل مشروعاته الإنسانية في الدول الشقيقة    مستجدات القطاع الصحي على طاولة نائب أمير حائل    «جامعة نايف الأمنية» تحصد اعتماداً فرنسياً في عدة برامج    «إثراء» يمتّع الصغار بفعاليات متنوعة.. وحرارة الطقس تزيد الإقبال على «المولات»    240 ألف مستقل وعميل في منصة العمل الحر    أمير الشرقية يستقبل سفير جورجيا    فيصل بن مشعل يتسلّم تقرير مزادات الإبل وفعاليات يوم التأسيس في ضرية    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين في القصف الإسرائيلي على قطاع غزة إلى 97 شهيدًا    استعراض البرامج والمبادرات المجتمعية في الطائف أمام سعود بن نهار    توقيع عقد صيانة شوارع الفوارة بأربعة ملايين ريال    أمير نجران يدشن مبادرة "صيّف بصحة"    في حال اعتذاره.. من يعوض الهلال في كأس السوبر    الاتحاد يضم عدنان البشرى من الأهلي    قصر علياء الأثري يبرز من بين الرمال كشاهد على طريق الحج القديم    يدور الوقت وابن ادم يعيش بوقته المحسوب    "الشؤون الإسلامية" تطلق الدورة العلمية لتأهيل الدعاة في بنجلاديش    فرنسا تعتمد برامج جامعة نايف    مستشفى الأفلاج العام يقدّم أكثر من 100 ألف خدمة صحية في 6 أشهر    أمير منطقة جازان يستقبل رئيس المحكمة الإدارية بالمنطقة    أمير القصيم يستقبل محافظ ضرية ويتسلّم تقريري مزادات الإبل وفعاليات يوم التأسيس    مكتبة الملك عبدالعزيز العامة تطلق عددا من الفعاليات عن الحرف اليدوية    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على الشثري    نيابة عن خادم الحرمين الشريفين.. نائب أمير مكة يتشرف بغسل الكعبة المشرفة    هنا السعودية حيث تصاغ الأحلام وتروى الإنجازات    أمر ملكي: تعيين الفياض مستشاراً بالديوان الملكي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا رفض محمود درويش نشر مقالاته الأولى؟
نشر في الحياة يوم 26 - 08 - 2009

ربما لم يكن محمود درويش لينظر بعين الرضا إلى إعادة نشر مقالاته الصحافيّة والنقديّة الأولى التي كتبها لمجلة «الجديد» التابعة للحزب الشيوعي الإسرائيلي في حيفا، حيث كان يقيم في غرفة في بيت إميل توما في شارع عبّاس في جبل الكرمل. لكنّ المقالات التي تمتّد نحو عقد من الزمان (1961- 1970) صدرت مع ثلاثة حوارات في كتاب مستقّل عن دار الهدى للطباعة والنشر (الناصرة)، وقدّم لها الكاتب محمّد خليل.
ولا يمكن النظر إلى إعادة النشر هذه، إلا من خلال إعادة عقارب «النقد» إلى الوراء: أيقدرُ النقد أن يتخفّف من معرفته بدرويش الشاعر الاستثنائي، وينسى - بل يتناسى - قليلاً منجزه الشعري، لينصفَ «الشاب الظريف» الذي كانه؟ أيقدرُ النقد أن يفصل الغثّ من السمين ليعطي مقولة «البدايات الواعدة» صدقيّةً يمكن الاطمئنان إليها؟
لعلّ ذلك ممكنٌ إن وضعت هذه المقالات- البالغ عددها اثنين وثلاثين، في سياقها التاريخي، فأهمّ ما فيها مرآتها التي تعكس صورةً للحياة السياسيّة والثقافيّة للكتّاب الفلسطينيين في حيفا في عقد الستينات من القرن المنصرم، فهي تنطوي على مشاهد مريرة تخصّ وضع الكتاب الفلسطينيين المنضوين قسراً تحت أجنحة الأحزاب السياسيّة الإسرائيليّة التي لا يمكن القول إنها مختلفة متنوعة، إلا بقدر ما تتدرج المترادفات الزائدة عن الوصف، ما دام أثرها في الكتّاب بالغ السلبيّة، الأمرُ الذي يظهر جليّاً من خلال بعض المقالات (سيوف من خشب، عشر سنين، الضغط والانفجار)، حيث «يندفع» درويش هادراً جسوراً ل «فضح» ما تضمره إسرائيل من سياسات ترمي إلى احتواء المثقفين الفلسطينيين عبر وسائل ثنائية القطب: الترغيب والترهيب. لم يُخدع درويش ب «اهتمام» شمعون بيريس المبكّر بالشعر الفلسطيني مثلاً، ولم يغفل دور تسمّيته «شعر الخناجر»، في التحريض على الفلسطينيين وتحويل صورتهم من «المقاوم» إلى «الإرهابي». لكنّه، وفي غمرة اندفاعه، يحيدُ قليلاً عن هدفه من خلال تسهيمٍ في غير محله أصاب بعض الكتّاب الفلسطينيين من زملائه في السجن «الكبير». ولقارئ درويش أن يجس بنفسه نبض العنفوان والغضب في هذه المقالات الذي سيتحول بعد ذلك في مقال «في وصف حالتنا» مثلاً إلى سخرية مريرة ولاذعة.
وتكشف المقالات أيضاً، عن العلاقة المعقدّة بين الأدباء الفلسطينيين والإسرائيليين آنذاك، ومنها مثلاً من المونولوج الى الديالوغ، ثلاث كلمات على إيقاع واحد، واقع الكاتب العربي في إسرائيل، صداقة بلا مكياج، وهذا الأخير يخصّ أوري ديفس الإسرائيلي الذي رفض أن «تقوم مدينة على الإثم»، والمدينة هي كرمئيل... ف «أعلن الصيام احتجاجاً على الظلم... وقيد إلى السجن». ومن خلال رواية ما جرى مع ديفس، تتضحّ نظرة درويش إلى الصراع حين كان في حيفا، إذ يبدو أن للثقافة أوهامها الخادعة التي تقول بضرورة الحوار، بيد أنّ اللقاء بين الأدباء العرب والإسرائيليين بدّد قدراً لا بأس به من تلك الأوهام، إذ إنّ «زملاءنا اليهود لم تكن تشغلهم قضية الأديب العربي، بقدر ما تشغلهم القضية الأهمّ: الحرب والسلام في المنطقة». وكعادتهم اشترط الإسرائيليون الإجابة عن مسائل تهمّهم والاعتراف بها، فها هي مفردة الإرهاب «القديمة المتجدّدة» تطلّ برأسها، لكن «الشاب الظريف» يضع الأمور في نصاب المنطق حين يكتب: «هل الإرهاب هو الذي خلق مأساة الشعب الفلسطيني، أم مأساة الشعب العربي الفلسطيني هي التي خلقت الإرهاب»؟ بيد أن المنطق والحق والحجة لا تؤدّي إلى نتائج يعوّل عليها، إذ «لا حلول ثقافيةً لهموم وجودية» كما كتب درويش بعد ثلاثين عاماً في «سرير الغريبة».
وبقدر ما عكست المرآة صورة الحياة السياسية في حيفا «المختلطة»، عكست أيضاً من خلال قلم درويش «النقدي» هذه المرة جانباً من الحياة الثقافية التي تطاول المسرح (العرب والمسرح الإسرائيلي، نحن وأنتيغوني) والشعراء الكبار (ناظم حكمت: النشيد الخالد، بدر شاكر السيّاب)، والشعراء المعاصرين له مثل سلمى الجيوسي، عبد المعطي حجازي، فدوى طوقان، سميح القاسم، وقد كتب درويش عن دواوينهم الصادرة توّاً: العودة من النبع الحالم، مدينة بلا قلب، أعطنا حبّاً، أغاني الدروب. ودرويش ناقدٌ نزيه إذ هو يرى نصفي الكأس: المالئ والفارغ. ويميلُ مذهبه في النقد إلى شرح الشعر وتفسيره من جهة، وإلى بث آرائه الشخصية من جهة أخرى، فدرويش الذي يميلُ إلى الغنائية، يقدّرها لدى فدوى طوقان، ويلاحظ كيف أنّها تفترق «افتراقاً باهراً وبعيداً عن الرومانسيين، فهي شاعرة حبّ لكنه حبّ واقعي، له خطوطه وملامحه وحدوده الواضحة». ويلاحظ كيف أنها «لم تستطع أن تحافظ على موسيقية شعرها في بعض القصائد». أمّا سلمى الجيوسي فلا يعجبه لديها أنها «مغرمة غرماً مسرفاً بالشرود والضبابية في معظم قصائد الديوان وبخاصة الذاتية، فهي غامضة ومغلقة عن عمد بستار ضبابي كثيف، وهذا ما لا أحبه عند سلمى»، بيد أنّه يقدّر مزجها بين الشخصي والعامّ في قصيدة «بلا جذور». ويلاحظ درويش أن ديوان حجازي «مدينة بلا قلب»، ليس مجموعة شعريّة، فيكتب: «الشاعر تجاوز حدّ وحدة القصيدة إلى وحدة الديوان». وجمعنا ما أعجب درويش في دواوين معاصريه، لوجدنا بعض ملامح درويش الذي يعجبنا: الغنائية، الموسيقيّة، وحدة الديوان والمزج بين الشخصي والعام.
لكن ثمة مفاجأة في غاية اللطف في هذا الكتاب، ففي أحد المقالات يناقش درويش كتاب نازك الملائكة الشهير «قضايا الشعر المعاصر»، وهو الكتاب الأكثر شهرة في عَروض الشعر الحديث، إذ انها المرة الأولى التي ينزل فيها العَروض من عليائه الأكاديمي، ليغدو شأناً ثقافياً عامّاً.
وإن كنّا نعرف رأي جبرا إبراهيم جبرا ولويس عوض وعبد الله الغذامي ومحمّد النويهي وغيرهم من النقّاد الذين لم يوافقوها على آرائها «غير الحصيفة» ومثلّوا لذلك من شعرها نفسه، فإننا لم نكن نعرف أن لمحمود درويش رأياً في ذلك. ولعلّ هذا المقال يفصح عن صورة مجهولة لدرويش، فهو عارف عليم لا بأسرار الإيقاع فحسب، بل بمصطلحات العَروض أيضاً. والأهمّ من ذلك أنّه يجيد الربط بين المصطلح الجاف وسياقه الإيقاعي، فيرفض مثلاً أن يوافقها على رفضها للتشكيلات الخماسية والتساعيّة، «فما دام الشعر الحرّ يتيح للشاعر إمكانية زيادة عدد التفعيلات ونقصانها كما تحتاج إليها القصيدة، فلماذا نأنف من التشكيلات الخماسيّة»؟ ولا يوافقها على عدم صلاحية بعض البحور المركبة للشعر الحرّ (شعر التفعيلة): «وهذا القول ليس دقيقاً تماماً فمن القصائد الناجحة في الشعر الحرّ بعض القصائد التي كتبت ببحر البسيط». ونظراً إلى تمتع درويش بإحساس إيقاعي رفيع، فإنّه يفرق بين جوازات تفعيلة الرجز في حالتين؛ فإذا كانت في متن القصيدة فلا ضير، أمّا إذا كانت في نهايات القصيدة (والمقصود نهايات المقاطع) فمن الأفضل أن تكون متماثلة: «ولكني أرى أن (مستفعلان) تكون مقبولةً عندما تنتهي بها كلّ أبيات القصيدة».
وكما يليق بشاعرٍ موهوب يقرّر ببساطة: «لا نستطيع تقرير بحر معين لموضوع معين... المقرر في قضية الوزن هو الشاعر نفسه... ملاحظته وحدسه الفنّيان»، ثم يهدي النقد أجمل الكلام عن بحرين أثيرين لديه؛ الكامل والخفيف: «المعروف عن بحر الكامل مثلاً أنه بحرٌ جزيل وغزير، لكنّه من الطرف الثاني في منتهى العذوبة والرقة حين يُحسن استعماله في الغزل. وكذلك الخفيف بحرٌ هادئ غير هادر، ولكنّه يصبح كالعاصفة والتيار حين يستعمله شاعر جيد لموضوع حماسي». وفي إشارات مماثلة يتيقن النقد من صدقيّة القول بالبدايات الواعدة لذاك «الشاب الظريف».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.