عندما حصلت سارة (24 سنة) على شهادة الثانوية العامة في العام 2003 كانت تخامرها أحلام الشهرة والأضواء والإبداع والظهور على شاشات التلفزيون، خصوصاً مع حصولها على علامة جيدة تخولها الالتحاق ب «معهد الصحافة وعلوم الأخبار»، المؤسسة الجامعية الوحيدة التي يتخرج فيها الصحافيون في تونس. «مرت السنوات الأربع التي قضيتها في معهد الصحافة سريعة كالحلم، ومع ارتقائي في كل سنة أزداد لهفة على خوض التجربة المهنية والالتحاق بإحدى الصحف أو المحطات التلفزيونية لأقوم قدراتي وأطبق ما تعلمته»، تقول سارة ل «الحياة» وتستدرك بمرارة: «لكن سنة ونيف من البطالة جعلت أحلامي تتحطم على صخور الواقع المتردي لقطاع الإعلام في بلادي. ما الفائدة من تخريج دفعات ودفعات من الصحافيين من دون توفير فرص عمل لهم تحفظ كرامتهم وتعوضهم عناء الاجتهاد في الجامعة». وسارة التي أسعفها «الحظ» أخيراً بحصولها على عمل في محل عام للانترنت ليست الوحيدة في تونس، فالمئات من خريجي قطاع الإعلام وقعوا فريسة البطالة التي تضرب أصحاب الشهادات الجامعية العليا. تشير البيانات الرسمية لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي والتكنولوجيا التونسية إلى أن عدد طلاب معهد الصحافة ارتفع من 3676 طالباً خلال السنة الجامعية 2004 – 2005 ليصل إلى 3831 في السنة الجامعية التالية. إلا أن الإجراءات الصارمة التي طبقتها إدارة «معهد الصحافة وعلوم الأخبار» في قبول الطلاب جعلت عددهم يتراجع إلى 3245 خلال السنة الجامعية 2006 – 2007 ليصل في العام 2008 إلى 2596، تمثل الإناث قرابة 75 في المئة منهم. وعلى رغم أن معهد الصحافة في تونس يُعتبر أشبه بمدرسة صغيرة لتخريج الصحافيين بعدد محدود جداً من الطلاب الُمسجلين (بين 80 و100 خريج سنوياً) مقارنة بالجامعات الأخرى التي يتجاوز فيها عدد الطلاب المسجلين أحياناً عشرات الآلاف، إلا أنه ظلّ «معهداً لتخريج دفعات من العاطلين من العمل»، على حد تعبير عدد من الطلاب. تساهم عوامل عدة مجتمعة في تعكير أوضاع خريجي قسم الصحافة في تونس، من أبرزها محدودية عدد المؤسسات الإعلامية، وتشدد الحكومة المفرط في منح التراخيص لمن يريد إنشاء مشروع إعلامي، وغياب معياري الشفافية والكفاءة في الانتدابات التي يعلن عنها بين الفينة والأخرى. ويُعطي القانون التونسي وزير الداخلية مطلق الحرية في قبول مطالب التراخيص أو رفضها ويقول بعض المصادر إن العشرات من الصحف والمجلات والإذاعات ما زالت تنتظر الترخيص لها على رفوف وزارة الداخلية. ولا يمكن لأي صاحب مشروع إعلامي في تونس مباشرة العمل من دون تسلمه «الوصل» من وزير الداخلية، وهو عبارة عن التأشيرة التي بموجبها تسمح الوزارة للنشرة أو الإذاعة أو القناة التلفزيونية بالعمل على الأراضي التونسية. وعلى رغم أن عدد كبيراً من السياسيين ورموز المجتمع المدني في تونس يؤكدون إنهم «استوفوا الشروط التي يضبطها القانون لاطلاق وسائل إعلام تابعة لهم، إلا أن وزارة الداخلية تتلكأ في منحهم التراخيص أو «الوصل»، في حين يشدد البعض الآخر على أن الحكومة «لا ترخص سوى للمقربين منها بسبب ضيق صدرها بالرأي المخالف وحرية التعبير». ظاهرة «الدخلاء على المهنة» تتسبب هي الأخرى في ارتفاع نسبة بطالة خريجي الإعلام، إذ أن صحفاً رسمية أو شبه رسمية وحتى «مؤسسة الإذاعة والتلفزة الحكومية» عادة ما تنتدب أشخاصاً لا يملكون مؤهلات جامعية في الكتابة الصحافية وتقصي المعلومة ومعظمهم من خريجي «اللغة العربية» والفرنسية والتاريخ والجغرافيا والفلسفة، الأمر الذي يؤدي إلى تزايد عدد خريجي «معهد الصحافة وعلوم الأخبار» العاطلين من العمل، خصوصاً مع غياب الرقابة الصارمة على الانتدابات التي تتم في المؤسسات الإعلامية والتي يخضع معظمها لعوامل المحسوبية والعلاقات الشخصية. لمسؤولي الصحف والإذاعات رأي مخالف، فهم يعتبرون «ضعف تكوين طلاب معهد الصحافة وتدهور مستوى تمكنهم من اللغات العربية والفرنسية والانكليزية وضعف الثقافة العامة لديهم» من الأسباب التي تجعلهم يترددون كثيراً في انتدابهم. ويشهد طلاب الصحافة أنفسهم بضعف مردودهم، فالطالب كريم الذي يستعد للحصول على الأستاذية في الصحافة الإلكترونية العام المقبل، يقول: «معظم خريجي معهد الصحافة يعانون ضعفاً في التكوين ما يجعلهم غير قادرين على استيعاب الضغوط التي تفرضها سوق الشغل، لقد أضحى الحصول على فرصة عمل في إحدى المؤسسات الإعلامية متوافراً ومتاحاً بدرجة أعلى للمتخرجين من اختصاصات أخرى كاللغات والعلوم الإنسانية ويفقد طلاب معهد الصحافة هنا، الأولوية في التشغيل». ولأن الحصول على شغل أضحى في نظر الكثيرين من خريجي معهد الصحافة العاطلين من العمل أشبه ما يكون ب «الحلم» صعب المنال، فقد انخفضت الشروط التي كان طالب الإعلام يضعها في السابق للعمل ومن بينها، الخط التحريري للمؤسسة التي سينتمي إليها ودرجة رحابة الصدر والقبول بالرأي المخالف وتخفيف حدة الرقابة والسخاء في التعامل المادي. لكن مُعدل أجر الصحافي التونسي لا يكاد يتجاوز 300 دولار شهرياً في شكل عام في حين يشكو الإعلام الحكومي وشبه الحكومي من رقابة «حديدية» ربما تعكس سجل تونس «السيء» في مجال الحريات الصحافية، بحسب منظمات محلية ودولية على غرار «مراسلون بلا حدود» و «لجنة حماية الصحافيين في نيويورك» وغيرهما. النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين التي عول طلاب الصحافة عليها كثيراً عند تأسيسها لتدافع عن مصالحهم، تعاني حالياً تمزقاً وتستعد لعقد مؤتمر استثنائي بعد أن استاء فريق من الصحافيين المقربين من الحكومة من الأداء «الجريء» للمكتب التنفيذي المستقل الحالي ما يوحي بتراجع دور النقابة المدافع عن أهل المهنة في المُستقبل المنظور. يقول صبري الذي أنهى دراسته في العام 2005 وما زال وضعه المهني «هشاً» كما يصفه نظراً الى عدم حصوله على عمل: «الأزمة المتفاقمة التي يعانيها خريجو معهد الصحافة وعلوم الأخبار بخصوص آفاق التشغيل مردها غياب المناظرات الشفافة في الانتداب التي حلت محلها المحاباة والمحسوبية بدل الكفاءة من دون أن يدرك مسؤولو قطاع الصحافة أن هذا الوضع ينعكس سلباً على المشهد الإعلامي برمته». و للخروج من هذا «المأزق» يشدد صبري المنتسب الى نقابة الصحافيين التونسيين على ضرورة أن «تتحمل الدولة والمجتمع المدني مسؤولياتهما التشريعية والتنفيذية في مراقبة ومحاسبة أصحاب المؤسسات الإعلامية عند الانتداب». كما يقترح «إدراج مادة «التربية على وسائل الإعلام» في البرامج التعليمية الثانوية لكي تنتدب الوزارة صحافيين يدرّسون هذه المادة لتلاميذ المعاهد أملاً في خفض نسبة بطالتهم، إضافة إلى إحداث «صندوق للتعويض على البطالة» على غرار ما هو معمول به في بعض الدول الأوروبية».