بالأمس تخليت طوعاً عن دوري التاريخي كمواطن غلبان يعيش في مدينة جدة، يتلقى من الضربات، والمطبات والحفر، وسوء الحياة، ما يكفي أمة بكاملها، ويدافع عن نفسه وعن عائلته في حقه بالعيش بالحد الأدنى من جودة الحياة، خصوصاً أمام التردي الهائل لأعمال النظافة والصيانة ومكافحة الناموس والذباب والغربان والفئران، ما يشغله حتى عن لقمة العيش. تخليت بإرادتي عن ذلك الدور لمدة 24 ساعة فقط، و«حلمت» أنني «أمين» لهذه المدينة العتيقة، حتى أحكم على هذه الأمانة ومن فيها، من دون انحياز ومن دون ظلم. وعلى رغم استحالة تحقق ذلك الحلم، لأسباب لا تخفى على كل حصيف، فنحن في زمن لا مكان فيه للكفاءة، ولا للتفوق، ولا صاحب الرؤية، وأنا هنا - لا أمدح نفسي - بل أحدد مشكلة الآلاف من الكفاءات المركونين على الرف. إذاً ماذا لو كنت «أميناً» لهذه المدينة الناهضة من نومها قبل قليل من تولي أمانتها الثقيلة، ماذا سأفعل، وماذا سأصدر من قرارات؟ سأتوكل على الله وأبدأ العمل في الساعة السادسة صباحاً، فلا مفر من أخذ جولة يومية سريعة على مدينتي العزيزة، وسيكون معي طاقم عمل محدد، هو القيمُ على ضمان جودة الحياة للبشر القاطنين في مدينتنا. أولاً: سأحدد هوية مدينتي، هل هي مدينة سياحية، أم طبية، أم تجارية، أم ماذا، لأني سأبني كل خططي المستقبلية على ضوئها... إضافة إلى أنني سأعود لتاريخها العريق، لأتيقن وأرسخ هويتها وطابعها العمراني. سأبحث عن خط يمثل هوية المدينة، فالقاهرة مثلاً اختارت الخط الفاطمي هوية لمدينتها، تكتب به لوحاتها، وتسمي شوارعها، وبالتأكيد ستجد جدة خطها العريق. سأبني مسرحاً كبيراً، ومكتبة عامة، ومتحفاً يتنفس جدة منذ أمنا «حواء» وحتى الآن. سأؤكد للجميع أن واجهات المباني والمحال ملك للشارع وللذوق العام، وليست ملكاً للأفراد، ولذلك فلا خيار لديهم لتشويه مدينتهم، وعليّ وعلى إداراتي أن أعطيهم «مانول أو دليلاً» يحمل مواصفات الواجهات التي يبنون بها بيوتهم ومراكزهم التجارية. سأوقف تماماً هذا «التسليع» لجدة، وتحويل كل شارع مزدوج فيها لشارع من الدكاكين، وأحدد في كل حي سوقاً صغيرة تخدم سكانيه. سأوقف فوراً قطع الأشجار المعمرة في مدينة جدة، التي كانت في يوم من الأيام أحد مصادر جمالها، بل وأتبنى رؤية تشجيرية واحدة للمدينة، لأنك سترى اليوم، أن الشارع الواحد فيه أنواع من الشجر بلا روح، ولا لون، ولا شكل لها، وكأنك في بيت شعبي، تشتري له متى ما توفر لديك قليل من المال. سأكافح الناموس الذي استوطن جدة، وأصبح أكثر الجاليات تأثيراً التي تقطن المدينة، وهذه المكافحة لا تحتاج إلى عبقرية ولا حدة ذكاء، بل هي لا تتجاوز أعداد مجموعة من سيارات الرش البسيطة، تجول في الشوارع قبيل مغرب كل يوم. سأتفقد كل أسبوع حياً من الأحياء، وأجول راجلاً بنفسي في شوارعه، وسأحضر معي مركبات الإسعاف لأني لا شك سأصاب بصدمة عصبية وربما بتوقف للقلب، مما أرى، فجولة بسيطة في حي البوادي المنظم، أو الفيصلية، أو الصفا، أو المداين، أو العزيزية، أو الشعلة، أو شارع جاك... إلخ، ستؤكد لك أنك في وادٍ والمدينة في وادٍ آخر. سأعيد تخطيط طريق المدينة، وسأدرس مداخله ومخارجه، وسأتعرف على مناطق الاختناق فيه، بما يضمن سيولة الحركة. سأغلق فوراً المنطقة الصناعية المواجهة للمطار، ولن أتردد لحظة واحدة، فحياة مدينتي أهم وأغلى من نفوذ ملاكها. سأوقف بناء الخدمات في الحدائق، وسأصر على أن الحديقة للبشر مهما كلفني الأمر. سأبني حديقة مركزية كبرى في وسط المدينة، وأجعلها مفتوحة للناس من دون تأجيرها لمستثمر. سأتقدم بمشروع لهدم أسوار الشاليهات والبيوت والقصور الخاصة في «أبحر» و«خليج سلمان»، فالشواطئ في كل الدنيا ملك مشاع. وقبل أن أصحو من حلمي سأصدر قراراً بفصل جميع الموظفين الحاليين، وسأبدأ بتعيين خبرات عالمية، فالحياة الجيدة لا خيارات فيها، ولا مجاملات، ولا «سعودة». وأخيراً... سأدعو لك أيها «الأمين» أن يعينك الله على ما أنت فيه، فالمدينة مرهقة وأهلها محبطون. [email protected] @dad6176