يروي الكاتب المصري صلاح عيسى في مقدمة كتابه الهام عن تاريخ الثورة العرّابية انه بعد سنوات من قيام ثورة 1952 في مصر، حدث أن طلب المسؤولون من عدد من الباحثين والمؤرخين أن يتدارسوا فكرة وضع تاريخ شامل لمصر، خلال القرنين الأخيرين من الزمن على الأقل. وذات مرة، حين كان هؤلاء المعنيون مجتمعين يتدارسون الأمر، دعوا للتداول معهم المؤرخ عبدالرحمن الرافعي الذي كان اشتهر بوضع كتب كثيرة ترصد تاريخ مصر خلال الفترة نفسها، عاماً عاماً وحدثاً حدثاً. يومها، إذ فهم الرافعي غاية الاجتماع، نظر بدهشة الى المجتمعين وتساءل باستنكار: «تاريخ مصر؟ ولكن ألا تعرفون انني كتبته منذ زمن بعيد؟». ذلك ان الرافعي كان ينتمي الى مدرسة ترى ان كتابة التاريخ انما هي وصف للأحداث الكبرى وبثّ لبعض الآراء من حولها. وهي مدرسة قديمة عريقة لها مؤيدوها وأنصارها بالطبع، لكن القرن العشرين، بخاصة، أتى يقول ان تاريخها لم يعد كافياً، وأن الكتابة الحقيقية للتاريخ، شيء آخر تماماً. ويقيناً ان المؤرخ الفرنسي جول ميشليه كان من شأنه أن يقف الموقف نفسه الذي عبّر عنه الرافعي، حين احتُفل قبل عقدين ونصف العقد تقريباً من الآن، في فرنسا بالذكرى المئوية الثانية للثورة الفرنسية، وعاد الحديث للمناسبة، عن «ضرورة كتابة تاريخ جديد للثورة». ذلك ان مؤرخاً من طينة ميشليه كان سيدهشه مثل هذا الحديث، إذ هو الآخر كان يرى انه كتب تاريخ الثورة الفرنسية منذ زمن بعيد جداً... وكتبه في «شكل نهائي». والحال ان المسألة تكمن ها هنا: في الفارق بين من يرى أن التاريخ يمكن أن يكتب في شكل نهائي، ومن يرى أن لا نهاية لكتابة التاريخ. ومع هذا، ثمة فكرة راسخة في فرنسا، وفي الأوساط الشعبية بخاصة، تقول ان ميشليه هو، عن حق، مؤرخ الثورة الفرنسية، وأن كتابه الضخم حولها هو المرجع الأساس الصالح ل «معرفة ما الذي حدث خلال تلك السنوات الرهيبة». كتب جول ميشليه «موسوعته» حول تاريخ الثورة الفرنسية، خلال الفترة الفاصلة بين عامي 1847 و1853، أي خلال تلك السنوات التي توقف فيها عن مواصلة كتابة مؤلفه الضخم، والذي لا يزال مرجعاً حتى اليوم عن «تاريخ فرنسا». فالذي حدث هو أن ميشليه الذي كان، عهدذاك، مديراً للأرشيف التاريخي القومي الفرنسي، وأستاذاً للتاريخ في ال «كوليج دي فرانس»، كان بدأ يخوض معترك السياسة، في خط جمهوري واضح، وهو إذ أراد من كتابة تاريخ فرنسا أن تساعده، وتساعد قراءه، على فهم الحاضر، أدرك ذات لحظة ان ليس في امكانه أن يفهم أي شيء من تاريخ فرنسا في زمنه، بل بالأحرى: ليس في إمكانه أن يفهم ظاهرة الملكية المطلقة منذ زمن لويس الحادي عشر، إن هو لم يدرس الثورة الفرنسية وظروفها. وهكذا، حيث كان بين 1833 و1843، أصدر الأجزاء الستة الأولى من «تاريخ فرنسا» واصلاً فيه الى عصر لويس الحادي عشر، أوقف ذلك كله، ليمضي السنوات السبع التالية في دراسة الثورة الفرنسية والكتابة عنها ونشر أجزاء كتابه عنها، قبل أن يستأنف لاحقاً عمله على «تاريخ فرنسا» ويتابع إصدار أجزائه. وهكذا ولد كتاب «تاريخ الثورة الفرنسية» الذي لا يزال يُقرأ حتى اليوم قراءة مرجعية، وصاغ ذهنية عشرات الملايين من الفرنسيين ونظرتهم الى ذلك الحدث الجلل، الذي لم يغير تاريخ فرنسا وحدها، بل ساهم كذلك في تغيير تاريخ أو أفكار أمم بأسرها. ومع هذا يبقى ثمة سؤال دائم هو ذاك الذي طُرح يوم الاحتفال بالمئوية الثانية للثورة: هل يمكن حقاً الوثوق الى الأبد بهذا الكتاب؟ هل هو التاريخ النهائي لتلك الثورة؟ الحقيقة ان الجواب البديهي، اليوم، هو النفي بالنسبة الى السؤالين. ومع هذا من غير الممكن تكذيب أي فصل من فصول الكتاب، لأن ميشليه روى فيه الأحداث كما دارت، وصوّر فيه شخصيات الثورة كما عاشت... ولكن دائماً من وجهة نظره هو، لا من وجهة نظر التاريخ الموضوعي، أو من وجهة نظر فلسفة تفسيرية للتاريخ تنطلق من شتى الاحتمالات في توازٍ بينها، ولا حتى من وجهة نظر فلسفية للتاريخ تربط الأحداث الكبيرة بالأحداث الصغيرة... وهنا قد لا يكون من غير المفيد ان نفتح هلالين لنشير الى كتاب شديد الأهمية في التنظير لهذه الأمور اصدره أخيراً الباحث اللبناني د. وجيه كوثراني في عنوان «تاريخ التاريخ» عن المركز العربي لدراسة السياسات، وفيه يبين صنوف كتابة التاريخ ومدارسها في شكل مميّز لا شك في انه يساعد على فهم ما جاء اعلاه ومواقف الرافعي وغيره من كتابة التاريخ. في اختصار إذاً، كان من الضروري دائماً قراءة «تاريخ الثورة الفرنسية» لميشليه، كما هو وضمن حدوده: أي نصاً سردياً كتبه مفكر ومؤرخ غلّب ايديولوجيته الشخصية على فحوى عمله، وغلّب عواطفه على تفسيراته للوثائق المهمة والغنية التي وقعت بين يديه واستخدمها... ما جعل الكتاب في نهاية الأمر «وسيلة مثلى لترويج افكاره السياسية لدى الرأي العام». وهو حقق في مهمته هذه من النجاح ما جعل الثورة الفرنسية طوال حقبة طويلة من الزمن، لا تُرى، إلا عبر مرشحه الفكري. يبدأ جول ميشليه كتابه بأن يلقي نظرة سريعة، في التمهيد، على تاريخ فرنسا العام، وهو بعد ذلك يفرد بقية صفحات الكتاب، ليروي حكاية الثورة منذ انتخاب الأركان العامة، حتى موت روبسبيير... اي كل الأحداث الثورية، بما في ذلك إعدام الملك لويس السادس عشر، الذي لا يدينه ميشليه بوضوح حتى وإن كان لا يفوته، في بعض الصفحات، أن يهاجم حقبة الإرهاب المريع التي عاشتها الثورة بعد فترة يسيرة من «انتصارها»، إذ نجده يقول بكل وضوح: «لم يكن الإرهاب هو الذي أنقذ الثورة... بل إن الثورة أُنقذت على رغم الإرهاب». وهنا يبدع ميشليه، في شكل خاص، في رسم صورة للتطور الذي سرعان ما اتخذته الأحداث الكبرى، ولا سيما حين يبحث عن تفسير لذلك التطور في الأوضاع الاجتماعية وذهنيات الناس، متوقفاً عند الكثير من ملامح الحياة الاجتماعية والشخصية، وعند الآمال التي كانت الجموع عقدتها على تلك الثورة لتنيلها الحرية وتحمل اليها الكرامة، وذلك في ارتباط وثيق مع المعتقدات الشعبية الراسخة. ولئن كان هذا البعد، في وصفنا له هنا، يبدو متناقضاً مع السمة العامة التي طبعت عمل ميشليه، فمن الواضح ان هذا الأخير انما غاص هنا في التحليل وفي ربط الأحداث الكبرى بالتفاصيل الصغيرة، فقط لكي يعثر على مبررات تفسر وقوفه الدائم الى جانب الثورة. وحتى حين تضل طريقها وتتحول الى مجموعة من الأعمال الإرهابية الصغيرة، التي تفقد هدفها الثوري، لتصبح مجرد صراعات صغيرة وتصفيات للحساب من ذلك النوع الذي أعطى دائماً الحق لأولئك الذين قالوا دائماً ان الثورات أول ما تأكل إنما تأكل أبناءها أنفسهم. و «أبناء الثورة» هؤلاء هم جموع الشعب العريض الذي خاض الثورة، والذي - من مشكلات كتاب ميشليه - انه يراه موحداً في موقفه منها، من دون أن يعطي أية صدقية حقيقية لكثر آخرين وقفوا ضد الثورة، أو على الأقل وقفوا حائرين من دون اتخاذ موقف واحد. هؤلاء، بالنسبة الى ميشليه لا قيمة لهم على الاطلاق. ولكن، لئن يبدو الكتاب ضعيفاً في هذا المجال ومتهافتاً، فإن ما يعوّض على ذلك «البورتريهات» التي يرسمها ميشليه للثوريين الكبار، من أمثال دانتون وروبسبيير وسان - جوست ومارا... إذ هنا يبدو أسلوب ميشليه متألقاً دقيقاً وغنياً، وصادقاً الى حد كبير. والحال ان هذه النصوص وحدها قد تكون كافية لإعطاء الكتاب قيمته وجزءاً كبيراً من صدقيته، حتى وإن احتاجت الثورة الفرنسية الى كتب عدة أخرى تؤرخها في شكل أكثر منطقية من كتاب ميشليه، ولكن أيضاً من كتب أخرى أرخت لها مثل كتاب توماس كارلايل، وكتاب ادولف تيار... جول ميشليه (1798 - 1874) الذي يُعرّف بأنه «الأكثر شاعرية بين مؤرخي القرن التاسع عشر»، درس التاريخ منذ البداية، وصار عام 1827، محاضراً في «المدرسة التحضيرية». وهو نشر عام 1831 كتاباً حول «تاريخ الرومان»، كما نشر «مدخل الى التاريخ العالمي»، قبل أن ينشر القسم الأول من «تاريخ فرنسا». ثم كان الدور ل «تاريخ الثورة الفرنسية» قبل أن يعود الى استئناف اصدار «تاريخ فرنسا»، حتى عام 1867. وفي شكل عام، تعتبر كتابة ميشليه للتاريخ كتابة رومانسية تقف على الضد من الموقف العقلاني الذي ساد في القرن الثامن عشر... ومع هذا، فإن كتابته تعتبر كتابة حيوية وحية. [email protected]