تحت وهج ماركسية السبعينات من القرن الماضي ومقولاتها حول البنية التحتية والبنية الفوقية وقوى الانتاج وايديولوجيا الجماعة، وحول نظرية الانعكاس في تفسيرها للإبداع، وتحت وهج البنيوية التكوينية للفرنسي لوسيان غولدمان في السبعينات أيضاً من القرن الماضي التي أعادت الاعتبار الى العمل الأدبي بعدما كان صادره المؤلف لحسابه، وعملت على ربطه بالسياق التاريخي والاجتماعي الذي أنتجه، كتب الباحث التونسي الطاهر لبيب «سوسيولوجيا الغزل العربي» بالفرنسية، وها هو اليوم يترجمه الى اللغة العربية بعد أن كان ترجم ثلاث مرات بأقلام آخرين، ويصدر عن المنظمة العربية للترجمة في بيروت. ظهر الشعر الغزلي موضوع بحث الطاهر لبيب في العصر الأموي، ومثل ظهوره ثروة شعرية في مسيرة الأدب العربي. ثروة قامت بجمعها نفوس عاشقة انتسبت بمعظمها الى قبيلة بني عذرة التي كانت تسكن شمال الحجاز، والتي قيل عنها «انهم قوم إذا عشقوا ماتوا»، وضمت مجموعة الشعراء العذريين أمثال جميل بن معمر، كثيّر عزّة، قيس بن ذريح، قيس بن الملوح، عروة بن حزام وغيرهم. تنقلوا ما بين مكة والطائف والمدينة من دون أن يحفلوا بما كان يدور في الساحة السياسية من أحداث، لأنهم استطابوا الحب في مقام اللوعة والفشل والحرمان وعصمة الدين الجديد. الباحثون في الشعر الغزلي، والشعر الغزلي العذري بخاصة، كطه حسين وشوقي ضيف وشكري فيصل تتباين أراؤهم حول نشأة هذا الشعر. فبعضهم يردّه الى نزعة التقوى في الإسلام، وبعضهم الآخر يعزوه الى مفهوم الحب في الإسلام وارتباطه بالعفة، وبعضهم الأخير يراه من خلال الإحساس بالحرمان نتيجة لانتقال مركز الحكم من الجزيرة الى الشام أيام معاوية. أما رأي الطاهر لبيب فيثير عدداً من الإشكالات في دراسته لهذا الشعر، من بينها اشكال يتعلق بالخيار المنهجي وإشكال آخر يرتبط بعلاقة المؤلف بأثره. الإشكال الأول يكمن في تجريب النبيوية التكوينية في مجال الشعر، مع العلم أن مبدعها الفرنسي لوسيان غولدمان الذي طبقها على النثر وجد حرجاً في تطبيقها على الشعر. أما الإشكال الثاني فيفضي الى النظرية الأدبية وما يغشاها من تحليلات حول موقع المؤلف في اللغة الفرنسية، والمؤلف المترجم الى اللغة العربية، والعلاقة الملتبسة للمعنى في انتقاله من لغة الى أخرى. على أن ما تقدم لا يغير من المقدمات التي استقاها الطاهر لبيب من التحليل السوسيولوجي للأدب الذي يبحث عن المسار الذي عبّر فيه الواقع التاريخي والاجتماعي عن نفسه عبر الحساسية الفردية للمبدع في النتاج الأدبي. والمبدع عند البنيويين التكوينيين كما عند الطاهر لبيب، هو الفاعل الجماعي الذي يعطي الأولوية للوظيفة الاجتماعية للإبداع (بنو عذرة) بمعنى ان الرؤية التي يشكلها المبدع من خلال ابداعه هي رؤية الجماعة. وهذا ما أدى بغولدمان الى القول: «يبدو لي أن ما يشكل الميزة الأساسية للفكر الماركسي هو مفهوم الفاعل الجماعي، وان الفاعلية للجماعات الاجتماعية دون الإفراد، وبفضل هذه الجماعات نتمكن من فهم الأحداث والمسالك والمؤسسات». ونسجاً على منوال ما تقدم يولي الباحث التونسي الاهتمام للجماعة (بنو عذرة) على حساب الفرد (جميل، كثير، قيس) فالجماعة تشكل أفضل طريق لفهم الإبداعات وتفسيرها، واكتشاف رؤيتها عبر التشكيل اللغوي (الشعر) الذي يتهيئه المبدع (الفرد) الذي هو الصوت الناطق باسم الجماعة. يكتب الباحث التونسي: «ان وجود مجموعة اجتماعية أيام الأمويين تحمل اسم بني عذرة هو وجود تاريخي لا شك فيه. الروايات والأساطير حول شعرائها مسألة أخرى. وبما اننا لا نتناول موضوعنا على صعيد بيوغرافي، فإن الروايات والأساطير تهمنا بقدر ما تغيّر من واقع الشخص تصوراً وتأويلاً. ان هذا التصور وهذا التأويل هما من مصادر إثراء الحب العذري ومن دونهما لا ينبني عالمه». لا يستبعد الطاهر لبيب في بحثه أي مصدر من المصادر المكونة لمدونته العذرية، فعلاوة على الروايات والأساطير يستقرئ الأخبار والقصص، ويتوقف عند النوادر التي تروى حول العذريين. ويستنطق شعر شعرائهم ليفسر الظاهرة ويؤولها. يكتب الطاهر لبيب: «لم يكن الحب العذري، خلافاً لكل هذا إلا انتاج مجموعة محرومة ومحتجة على طريقتها عبر لا مبالاتها، وهناك في الروايات ما يكفي من مؤشرات مقنعة». ليس للبطل (أي الشاعر، الإشارة لنا) لفقره الشديد أو النسبي من طريق الى امتلاك حبيبته. هكذا مثلاً رأى مجنون نفسه محروماً من ليلى التي تزوجها «كالمنيحة» زواج ربح، أحد أثرياء مكة. نشأ الحب العذري وتطوّر على ما يشرح مؤلف الكتاب في سياق من الهامشية الاقتصادية واللامبالاة الثقافية، وهو سياق لا شك في أنه ساهم في تحديد «الوعي التجريبي» الذي كان لمجموعة بني عذرة. هذا الوعي المعبّر عنه في موقف جماعي وصفه الشعر بما فيه الكفاية. ويتوسع الباحث التونسي في وصف السياق الاقتصادي الاجتماعي لهذا الشعر فيقول ما حرفيته: «في هذه البنية الاجتماعية الاقتصادية الجديدة حيث يتراكم الجزء الأكبر من الثروات بين أيدي فئة من المحظوظين، متحولاً من الاستهلاك المباشر الى اعادة انتاج موسّع، تطوّر فيه الحب العذري بالتوازي مع الحب الإباحي». والحب العذري على خلاف الحب الإباحي هو حب استلاب بالمعنى الماركسي. أي أن الشاعر الذي يتعب في الركض وراء الحبيبة لا يعود مردود تعبه له وانما للآخرين. هذا الشاعر أو البطل كما يسميه الطاهر لبيب ذات تواجه موضوعها، بل ان ذاته المحبة تصبح غريبة عنه (وأنكرت من نفسي الذي كنت أعرف - هكذا قال جميل) إن هذا الإحساس بعدم القدرة على استرداد نتيجة العمل، هو احساس يمدّ الشعر العذري بيأس عميق، وهو إحساس بعيد عن عمر بن أبي ربيعة الذي لا يبحث خلافاً للعذري إلا عن تأكيد ذاته من خلال التغني بجسد الحبيبة. لا يكتفي الطاهر لبيب بالبحث عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي حملت بني عذرة الى لا مبالاة سياسية موازية لهامشية اجتماعية واقتصادية، وانما يربط أثر هذه اللامبالاة ب «شعرية» شعرائهم انطلاقاً من فرضية سوسيولوجية تذهب الى القول بوجود صلة بين مجموعة اجتماعية والجمالية التي يصوغها المنتمون اليها، ويصنفون على أساسها. لذلك يزعم الباحث التونسي أنه موازاة للهامشية الاجتماعية التي كان يعيشها الشعراء العذريون، همّش هؤلاء على صعيد السلم البلاغي. وغالب الاحتمال انه لو كان بالإمكان القيام برصد واسع لحكم الشعراء القدامى بعضهم على بعض لتبين ان الشعراء العذريين، وعلى الأخص الثنائي جميل وكثير لا يحظون بمكانة بلاغية لدى ذوي الرأي من أهل الشعر والبلاغة. فعمر مثلاً يأخذ على جميل، في مقاطع يكثر الاستشهاد فيها، عدم المطابقة بين الإحساس والعبارة، في حين أن جميلاً عندما سمع عمر يتغزّل بإحدى النساء قال له: «والله ما خاطب النساء مخاطبتك أحد». أعاد الطاهر لبيب في دراسته عن الحب العذري النظر في الكثير من التصورات الشائعة التي علقت بالشعراء العذريين، وأمدّ حقل الدراسات الأدبية بأدوات منهجية في مجال علم الاجتماع الأدبي لم تستثمر كفاية في البحث عن اللامفكر فيه في ديوان الشعر العربي. إنه عمل جدير بالاحترام.