خلال العقود الستة التي شهدت فيها أوروبا ظروفاً اقتصادية كلية إيجابية في شكل عام في أعقاب «مشروع مارشال» و «اتفاق باريس»، أنشأ الاتحاد الأوروبي تكتلاً قانونياً - تجارياً متكاملاً، تمكّن في نهاية المطاف من منافسة الولاياتالمتحدة على صعيد الحركية الاقتصادية، بينما حافظ في الوقت ذاته على النموذج الاجتماعي التقدمي الموروث من التقليد البسماركي وعلى «إصلاحات الرعاية الاجتماعية» الليبيرالية في بريطانيا. وكانت ألمانيا وبريطانيا تشكّلان إلى حدّ كبير محرّكين توأمين للنمو الاقتصادي الأوروبي طوال تلك الفترة، مع اكتساب مدينة لندن الشديدة الابتكار، والمتساهلة في قوانينها، في شكل تدريجي، أهمّية أكبر من تلك التي أوليت لوول ستريت، جرّاء إصدارها وتداولها لفئات أصول رئيسة، تشمل أدوات الدخل الثابت، والعملات، والمشتقات، والأوراق المالية المدعومة من الأصول. إلا أن الأمور تبدّلت في شكل مفاجئ بعد 2008، إذ اضطر صانعو السياسات الأوروبيون والبريطانيون إلى مواجهة سلسلة من الأزمات التي تبرز معاً، بدءاً من أزمة الدين التي لا تنتهي في منطقة اليورو، ومروراً بالاضطرابات الاجتماعية الناتجة من إجراءات تقشّف قاسية فرضتها المفوضية الأوروبية و/أو الحكومات الوطنية، إلى جانب الحماسة الجديدة (وغير المدروسة أحياناً) إزاء التنظيم في أوساط صانعي سياسات الاتحاد الأوروبي، مع شغفهم المفاجئ إزاء «التنظيم المالي» و «الإشراف على القطاع المصرفي» بعد أعوام من اعتماد سياسة عدم التدخل الطوعي. إلا أن الأزمة الأكثر خطورة هي الأقل وضوحاً، فتفاقم أزمة التقاعد يعني أن ملايين المتقاعدين الأوروبيين يعيشون الآن في حال من الفقر، ويكمن الأسوأ في احتمال تقاعد عشرات ملايين العاملين الأوروبيين خلال السنوات العشر المقبلة بمنافع تقاعد غير ملائمة، ستتركهم عند مستويات أدنى بكثير من خط الفقر، حتى في دول أعضاء ثرية نسبياً كبريطانيا وألمانيا. وعلينا أن نتذكر أن الاتحاد الأوروبي تأسس بالتحديد لوضع حد ل «عصر التقشف» الذي استمر لأكثر من خمس سنوات بعد الحرب العالمية الثانية. وتجدر الملاحظة أنّ العقد الاجتماعي المتجدد، الذي يدعم هذه التجربة الأوروبية، تأسس بالاستناد تحديداً إلى وعد مزدوج متجدد، باعتماد خطط تقاعد كبيرة وبنية تحتية لمجمل المواطنين. وما يحدث هو أن هذه الوعود الأساسية باتت منتهَكة في معظم أرجاء الاتحاد الأوروبي اليوم. وأخيراً أحدثت مجموعة «إتش إس بي سي هولدنغز»، الرائدة أوروبياً في مجال الخدمات المالية، والتي تُعتبر أكبر صاحب عمل في القطاع الخاص البريطاني، مفاجأة عندما أعلنت عن قرارها الأحادي الطرف بوضع حد لصندوق التقاعد ذي المنفعة المحددة، ابتداءً من السنة المقبلة وبالنسبة إلى جميع الأعضاء الحاليين. وهي خطوة غير مسبوقة تُقدم عليها شركة بهذا الحجم، وقد تلهم أطرافاً أخرى راعية لخطط مماثلة في أرجاء الاتحاد الأوروبي. وشاءت سخرية القدر القاسية أن ينشر فريق من خبراء الاقتصاد، والخبراء الإكتواريين في «إتش إس بي سي»، تقريراً خاصاً في الأسبوع ذاته، يُظهر أن معظم العاملين البريطانيين لا يستعدون في الشكل المناسب للشيخوخة، مع العلم بأن 19 في المئة منهم لم يدّخروا أيّ مبلغ على الإطلاق! واللافت أن عصر التقشف الأول (ما بين 1945 و1949)، والذي يستعمله رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كامرون ووزير خزانته جورج أوزبورن كاستعارة لوصف الظروف الاقتصادية السائدة حالياً في أوروبا، كان يشكّل مرحلة فراغ قصيرة، بالنظر إلى أن «مشروع مارشال» و «اتفاق باريس» (الذي استُنبِط منه الاتحاد الأوروبي) سرعان ما عاودا إطلاق عجلة النمو الأوروبية. إنّ حصول ذلك مستبعد في هذه المرة، بالنظر إلى أنّ الولاياتالمتحدة (على خلفية الهاوية المالية وسقف الدين) لا تستطيع ولا ترغب في «تمويل» ما تبقى من العالم، وبالنظر إلى أن الاتحاد الأوروبي منقسم داخلياً ومعرّض لضغوط سكّانية واقتصادية كلية ومالية جمّة، والأهم أنّ دول أميركا اللاتينية والعالم العربي المنتجة للسلع والطاقة ما عادت تهتم بإرضاء الغرب من خلال تعديل الإمدادات وفقاً للدورة الاقتصادية في أوروبا والولاياتالمتحدة. يحصل هذا كلّه في وقت يعتمد فيه المصرف المركزي الأوروبي والمصرف المركزي البريطاني سياسة نقدية محفوفة بأخطار كثيرة فعلاً (في ظل عمليات «التيسير الكمي» المتسلسلة)، تسمح في شكل أساسي بإبقاء معدلات الفائدة عن مستويات متدنية بطريقة مصطنعة لفترة مطوّلة من الزمن. وينطوي ذلك على تأثير سلبي مضاعف بالنسبة إلى صناديق التقاعد والمستفيدين من الرواتب التقاعدية، فتحقيق عائدات أدنى، لعدد من السنوات المتتالية، في فئة أصول الدخل الثابت عموماً، سيزيد من حجم الفارق التمويلي لمجال التقاعد في المدى المتوسط، في حين أن التضخم المتزايد، سيعمل فعلياً، في موازاة ذلك، على خفض الرواتب (وهو واقع أقرّ به أخيراً مكتب الإحصاء الوطني في بريطانيا)، ما يرغم العاملين والمتقاعدين على استعمال مدّخراتهم لتسديد ثمن الطعام والوقود. * المدير العام للمجلس العالمي لصناديق التقاعد