نعم، لا تزال هناك مساحة لكلام مختلف في موضوع الانتخابات، كلام منطلقه مدني ومواطني، يختلف عن معظم الكلام الدائر، والذي له طابع سياسي انتخابي بحت. المسار الحالي لمناقشة قانون الانتخابات لا يمكن وصفه بأي حال من الأحوال بأنه مسار إصلاحي. هذه حقيقة تجب المجاهرة بها لمحاصرة جميع السياسيين الذين يعتبرون ما يتقدمون به من اقتراحات مشاريع إصلاحية، بينما الحقيقة هي أن لا أحد منهم إصلاحي (كالتيارات والأحزاب السياسية المنتمين اليها)، ولا ما يتقدمون به يقارب الإصلاح الانتخابي من قريب أو بعيد، ولا حتى مسارهم نفسه هو مسار إصلاح. إننا إذا اردنا وصف الأمور وفق واقعها الفعلي، فنحن إزاء عملية صراع سياسي انتخابي يهدف كل طرف من خلاله إلى تحسين شروط تمثيله في البرلمان المقبل. والمؤسف أن ذلك لا ينطبق على تمثيل الكتل السياسية وحسب، بل إن بعض الاقتراحات تكاد تكون مفصّلة على مقاس أفراد. هل فقد مجلس النواب أهلية مناقشة قانون الانتخاب؟ يزيد من حدة هذا الأمر، أن النقاش لا يجري «على البارد»، أي بشكل هادئ وعلى مسافة كافية من موعد الانتخابات، بل هو حوار «على نار» اقترابِ الانتخابات من طرق الأبواب. ويطرح هذا الوضع إشكالية دستورية وقانونية هامة، وهي التالية: هل النواب الحاليون (واستطراداً المجلس النيابي) هم الجهة الصالحة المؤهلة لمناقشة قانون الانتخابات وتعديله أو إقرار قانون جديد عشية الانتخابات، وهم كلهم (والحكومة معهم) من المرشحين للانتخابات النيابية؟ ألا يضع ذلك علامة شك على أهليتهم القانونية، خصوصاً أن أداءهم كان خلال السنوات الماضية، والأشهر القليلة الماضية تحديداً، دال على سعيهم إلى تفصيل قانون يمكن بواسطته التحكم بالنتائج مسبقاً وإلى أكبر مدى ممكن؟ نميل للاعتقاد أنهم فقدوا هذه الأهلية، موقتاً على الأقل، بحكم اقتراب موعد الانتخابات، لأنه لا تجوز إناطة التشريع بأصحاب المصلحة فيه، كما لا يمكَّن التجار حصراً من صياغة قانون التجارة، والمالكون حصراً من صياغة قانون الإيجارات، والعمال حصراً من صياغة قانون العمل. ما هو المعروض على اللبنانيين؟ المعروض على المواطنين خيار رديء مثلث المستويات، يتضمن: 1- حرمانهم الإصلاحَ الانتخابي الحقيقي، من خلال التأخير المتعمد في مناقشة الإصلاحات إلى ما قبل موعد الانتخابات، ومن خلال آليات ضيقة وحصرية لا تتيح المشاركة المواطنية في مناقشة قانون الانتخاب وصياغته، وهو ما يجري حالياً. 2- حرمانهم حقَّ المحاسبة العامة والخاصة، من خلال ما يُطرح من أفكار وسجالات حول نظام الاقتراع وتقسيم الدوائر حصراً، ونبذ كل الإصلاحات الأخرى التي من شأنها أن تحصّن المواطن إزاء الضغوطات على حرية اختياره. أضف إلى هذا أن المنكبّين على صياغة التعديلات يقلبون الأدوار، فبدل أن تكون الانتخابات مناسبة ديموقراطية لكي يختار المواطنون نوابهم الجدد ويحاسبوا –سلباً أو إيجاباً– نوابهم الحاليين، فإنك تجد في الوضع الحالي أن النواب (ومن ورائهم الكتل السياسية) هم الذين يختارون المواطنين الذين سوف يصوتون لهم. 3- حرمانهم المواطنةَ نفسها، وربما تهديد الوطن نفسه. ينطبق ذلك بشكل عام على مجمل الخطاب التعصبي (الطائفي، المناطقي، العنصري، الحزبي، الفئوي...) الذي يفوح من أداء القوى السياسية كافة (الاختلاف بينها هو في نسبة تطبيق هذا الخطاب فقط لا في أصل وجوده)، كما ينطبق ذلك بشكل خاص على «مشروع الفرزلي»، الذي نتحفظ –من موقع مواطنيّ- على وصفه ب «القانون» وب «الأرثوذكسي»، فهذا المشروع لا يجب أن يناقش بصفته مشروعَ قانون كما المشاريع الاخرى، لأنه ليس كذلك، فهو مشروع إلغاء فكرة المواطنية نفسها، التي وُجدت لتجاهد وتقاوم هذه التدهور السياسي والمجتمعي والقيمي المتوسع، كما أنه مشروع إنهاء فكرة لبنان نفسه من حيث هو دولة مدنية (يطمح الكثيرون لكي تكتمل هكذا دولة في اقرب فرصة، وهي أيضاً دولة يدعو إليها اتفاق الطائف والدستور رغم كل التحفظات والثغرات)، وهو أيضاً مشروع إنهاء الصيغة اللبنانية الطائفية التقليدية، التي كانت تقوم على أساس عائلي–محلي، متوارث غالباً ومستجدّ أحياناً، لصالح صيغة طائفية خالصة. الأدهى من كل ذلك، أن تُنتزَع منا هذه الحقوق الثلاثة: الإصلاح الانتخابي، المحاسبة، والمواطنة دفعة واحدة، من خلال تأجيل الانتخابات نفسها بحجج مختلفة، وما يدعو للقلق حقاً على هذا الصعيد، أن كثيراً من الناس يعتقدون أن النقاش الحالي هو مسرحية وتضييع للوقت، ومخرج للجميع كي لا يتحملوا مسؤولية سياسية في التأجيل أو الإلغاء. البحر من ورائكم ... وقبل المتابعة، دعونا نصحح بعض التعابير المستخدمة في غير معناها عن قصد ووعي كاملين: - فما يطلق عليه اسم «القانون الأرثوذكسي» هو اقتراح السيد إيلي الفرزلي، ولا يمت بصلة إلى الطائفة الأرثوذكسية، ونسبته إليها ما هي إلاّ لإعطائة مشروعية طائفية ما، وإدخاله بقوة إلى مسرح السجال السياسي، وهو أمر ما كان بالإمكان تحقيقه لو نسب القانون إلى السيد الفرزلي. هذا هو التصحيح الاول. - أما التصحيح الثاني، فهو أن ما يُطلق عليه تسمية قانون الستين، إنما يُقصد به في حقيقة الأمر القانون 25/2008 الذي تم الاتفاق عليه في الدوحة ثم سلك طريقه إلى مجلس النواب. ويتضمن هذا القانون إصلاحات كثيرة جداً، وتنقصه إصلاحات أخرى بالتأكيد، ولذلك جاءت تسميته ب «قانون الستين» للتعمية على نسبه الحقيقي وتسهيل إخراجه من ساحة السجال الانتخابي، ونسبه الحقيقي هو: قانون الدوحة عام 2008، تم التوصل إلى البنود الخلافية فيه حالياً (أي النظام الأكثري وتقسيم لبنان 26 دائرة) بين الأطراف السياسية الرئيسية (8 و14 آذار) وبرعاية عربية (مع دور خاص لقطر). تم التوصل إلى ملامح هذا الاتفاق في الدوحة بين الأطراف السياسية في ضوء أحداث السابع من أيار 2008، والتي أدت إلى ترجيح ميداني على الأرض لصالح ائتلاف الثامن من آذار تحديداً، ووافق الجميع عليه –مع أخذ ميزان القوى بعين الاعتبار-، وأُرسل إلى الأطر المؤسسية لتضاف إليه الإصلاحات الحقيقية الأخرى (وهي الجانب الإيجابي فيه، والتي تتعرض اليوم للانتهاك، مثل: تشكيل لجنة الإشراف على الانتخابات، واقتراع المغتربين والأشخاص ذوي الإعاقات... وغيرها من إصلاحات تستوجب منا تثبيتها وتطويرها لا الانقضاض عليها). وللتذكير فقط، فإن قانون 2008 هذا قائم وساري المفعول، ولا يملك أي كان من الأطراف السياسية التصرف وكأنه غير قائم، وخصوصاً إذا كان السبب وراء تصرفه اعتبارَه أن القانون لا يحقق له مصالحه الفئوية الخاصة. ومن منظور الحقوق، لا تملك أي قوة سياسية، مهما بلغت، حق التصرف بهذا الحق المواطني، واعتبار أن هذا القانون ليس قائماً، خصوصاً ان هذه الأطراف كلها صنعته ووافقت عليه –مع تفاوت في نسبة الحماسة له– وفرضته على المواطنين. لذلك، إذا كان لأحد أن يعترض على هذا القانون، فهم المواطنون والمجتمع المدني والأطراف التي لم تشارك في الدوحة، أما تلك المشاركة –سواء اعتبرت نفسها منتصرة أو مهزومة–، فلا يحق لها الاعتراض عليه أصلاً، لأنه من صنعها. على هذا الأساس، فإن الانتخابات يجب أن تتم في موعدها، وعلى أساس القانون الساري المفعول، الذي هو قانون 2008، حتى إشعار آخر. أما فشل النواب واللجان والتيارات السياسية في التوصل إلى اتفاق على تعديلات، أو على قانون جديد، فهو تعبير عن فشل جديد لهذا الطاقم السياسي (وهو فشل مستمر منذ سنوات طويلة في المجال الانتخابي، ومن لم يفلح في تحقيق أي إصلاح منذ أربع سنوات، لن ينجح -بلا شك- خلال أربعة أسابيع). يشكل هذا الفشل الجديد سبباً إضافياً لكي يجري تقديم موعد الانتخابات لا تأجيلها، لكي تتم محاسبة النواب على فشلهم المتكرر. إن حقنا كمواطنين في حصول الانتخابات في موعدها هو أمر غير قابل للتصرف، خصوصاً ممن يفترض أن تكون الانتخابات لمحاسبتهم، وهو حق لن نتخلى عنه إطلاقاً. لذلك نقول للمستعجلين على تأجيل الانتخابات وانتهاك حقوق المواطنين السياسية، بحجة عدم القدرة على الاتفاق وتحت «مسلّمة» أن قانون 2008 مرفوض، نقول لهم: قانون 2008 من ورائكم، وهو ساري المفعول، وهو يتضمن كثيراً من الإصلاحات التي ناضلنا من أجلها طويلاً. أما انتقادكم له لجهة تقسيم الدوائر، فهذا ما جنت أيديكم انتم، وهو في كل حال أفضل من معظم الاقتراحات البديلة التي نسمع عنها حالياً. ... والعدو من أمامكم إذاً، على الجميع أن ينطلقوا من حقيقة أن هناك قانوناً انتخابياً (القانون 25/2008)، وأنه إذا «لم تتفقوا» ضمن قواعد الدستور والمهل القانونية، فهو ساري المفعول، ولتكن حساباتكم السياسية على هذا الأساس، أي أن لا أحد يستطيع أن يفرض علينا خيار إما أن تقبلوا خياراتي أو الفوضى والتأجيل. لا، فإذا لم يقبل فريق من الطاقم الحاكم اقتراحات فريق آخر، فذلك خلافٌ في ما بينكم لا يحول دون إجراء الانتخابات وفق القانون الساري المفعول الذي نذكّركم مرة أخرى أنكم فرضتموه علينا. أيها السياسيون، قانون 2008 من ورائكم، وأمامكم في وجهة الإصلاح قانون لجنة بطرس، ولا خيارات حقيقية أخرى، فالمسار الراهن ليس مسار إصلاح انتخابي، ولا يمكن أن يكون، لا من حيث المسار الذي تسلكه النقاشات واللجان، مسار المساومة والمقايضة بين الكتل السياسية على أساس المصالح الانتخابية الضيقة، ولا من حيث الوقت المتاح، فهو وقت غير كاف لإنتاج إصلاح فعلي ولو كنتم راغبين في ذلك. فإذا كانت هناك رغبة فعلية في البحث عن قانون إصلاحي، فإن الخيار الواقعي الوحيد المطروح هو خيار مشروع القانون الذي اقترحته لجنة بطرس بكامله، من دون اجتزاء أو انتقائية. ولقانون لجنة بطرس العديد من الميزات: 1- أنه وُضع منذ سنوات، وهو بالتالي لا يمكن أن يكون منحازاً بشكل مقصود، ولا يمكن اتهامه بكونه مفصلاً على مقياس المصلحة الانتخابية لأي طرف. 2- أنه موضوع من لجنة متنوعة التكوين ومحايدة. 3- أن أي مسار حواري مماثل غير متاح اليوم، وأن اقتراح لجنة بطرس ربما كان أفضل ما كان بالإمكان التوصل إليه كتسوية بين المصالح المتعارضة. أما الاقتراحات الأخرى، فهي حَرْفٌ للمسار عن وجهته المنطقية، إما محاولة لسرقة حقنا في المحاسبة من خلال قتل قانون 2008، أو تأجيل إجراء الانتخابات نفسها، وإما محاولة لسرقة حقنا بالإصلاح من خلال هجوم اقتراحات ربع الساعة الأخير، والتي ليست بأفضل من قانون 2008، ولا افضل من قانون بطرس. حقنا في المحاسبة تشكل عملية المحاسبة (محاسبة النواب المنتخبين) إحدى الوظائف الأساسية للعملية الانتخابية، وإحدى ركائز العملية الديموقراطية ووظائفها. وما من شك في أن تأجيل الانتخابات أو إلغاءها هو انتهاك تام لهذا الحق في المحاسبة. ولكن هناك أيضاً مستويات أخرى لانتهاك هذا الحق، من خلال التلاعب بالعملية الانتخابية وبما يعطل عملية المحاسبة أو يضعفها. وأحد أهم الأساليب هو التغيير المستمر في الأنظمة الانتخابية، الذي يؤدي من جهة أولى إلى عدم استقرار قواعد اللعبة السياسية، ويؤدي من ناحية أخرى إلى تعطيل عملية المحاسبة أو تشويهها، خصوصاً عندما يجري تغيير قانون الانتخابات من دورة انتخابية إلى اخرى. اي اقتراحات لليوم والغد؟ استنادا إلى كل ما اوردنا، نقترح ان تتحمل الهيئات الدستورية مسؤوليتها، بدءاً من رئيس الجمهورية، الذي يلعب دوراً حاسماً في هذه العملية، وصولا إلى مواقع المسؤولية الاخرى داخل المؤسسات كما في الاحزاب والتيارات والافراد الفاعلين، وان يجري الالتزام بالخطوات التالية: 1- التزام معلن وصريح بإجراء الانتخابات النيابية في موعدها على اساس القانون الساري المفعول، وهو حتى الان القانون 25\2008 واعادة الاعتبار لهذا القانون باسمه الاصلي وبوصفه نتاج اتفاق سياسي بين الاطراف المتخاصمة اليوم، وعمره الفعلي اقل من خمس سنوات لا اكثر من 53 سنة. 2- مباشرة الحكومة والجهات المعنية فوراً إلى تشكيل اللجنة المشرفة على الانتخابات. 3- المبادرة فورا إلى تشكيل لجنة موازية للجنة النيابية المصغرة لتبحث في آلية تطبيق الاصلاحات التي تضمّنها القانون 25\2008 والتي لم توضع موضع التنفيذ بعد رغم النص عليها في القانون (اقتراع المغتربين، اقتراع اصحاب الاعاقات...). 4- في حال استمرت الحكومة في التعبير عن رغبتها بالاصلاح، نقترح عليها ان تضع على جدول اعمالها تبنّي مشروع لجنة بطرس كما هو، باعتباره اقصى ما يمكن ان تتوصل اليه هذه الطبقة السياسية الحاكمة، والكف عن محاولة اجتزائه أو تقديم اقتراحات اخرى سوف تكون محكومة بالمصالح الانتخابية المباشرة. 5- الاتفاق منذ الآن، انه بعد اجراء الانتخابات، يتم البدء بمسار اصلاحي يبحث في استكمال تطبيق الطائف، ومن ضمنه وضع نظام انتخابي مستقر وثابت لا يتبدل كل دورة انتخابية، والبدء في عملية تشكيل مجلس الشيوخ، ووضع اجندة تنفيذية لتجاوز الطائفية، والبحث في اللامركزية وتحقيق الانماء المتوازن...الخ. إن الفشل المتكرر يعود في جانب كبير منه إلى كون الحوار والقرار مقتصراً على دائرة الأطراف السياسية الحاكمة أو النافذة بشكل شبه حصري، واستبعاد المجتمع المدني والمواطنين من دائرة المشاركة في ايجاد الحلول. وحين يشارك الناس في الحياة السياسية العامة فإن ذلك غالبا ما يكون بصفة جمهور يهتف للقائد أو للقيادة اكثر من كونه مشاركا حقيقيا في العملية السياسية. فهل من مبالغة ان قلنا ان احد مداخل الحل تبدأ بالاعتراف بهؤلاء «الصعاليك» الذي يسمون انفسهم مواطنين في هذا البلد؟ فصعاليك الامس كانوا الطليعة التي انفكت عن القبيلة في المجتمع الجاهلي والارهاصات لتفكك المجتمع القبلي تمهيدا لتكون الجماعة العربية. و «صعاليك» اليوم ربما كانوا العنصر المتبقي من تفككك النظام المدني المواطني اللبناني، الذين لا يزالون يقاومون الاندحار الكامل إلى عصور الظلام، أي إلى ما قبل الدولة الوطنية المدنية الديموقراطية الحديثة. ولعلهم لهذا السبب يستحقون مزيدا من الاحترام، ومزيدا من مساحة الحرية والدعم لكي يصبحوا اكثر فعالية في بناء التوافقات التاريخية التي تدفع بالبلاد خارج مسار الازمات والمآزق. * ناشط مدني لبناني