ما يجرى في مصر يثير القلق الشديد والخوف المبرر في نفوس المهتمين بقضايا بناء المستقبل العربي الإسلامي على أسس قوية وبمنهج صحيح يراعي حقائق الأمور وطبيعة الأوضاع في كل بلد، ويحرص على سلامة كيانه وتماسك لحمته الوطنية. وحيث إن مصر دولة لها وزنها وتأثيرها الكبيران في العالم العربي الإسلامي، فإننا ننظر إلى الأحداث الصاخبة البالغة الخطورة التي تجرى فيها وتضطرب بها اضطراباً شديداً من خلال منظور البعد الحضاري الذي يتخطى الحاضر بكل ما فيه من صراعات وتجاذبات واشتباكات وأزمات، إلى المستقبل المشترك الذي يهمّنا جميعاً، بكل ما يحف به من مخاطر وينطوي عليه من احتمالات وتوقعات. لقد دخلت مصر منذ 25 يناير عام 2011، في مرحلة حرجة ودقيقة من تاريخها المعاصر، قرر الشعب المصري أن يخوض غمارها بمحض إرادته التي تحترم على كل حال، للتخلص من نظام فاسد وأوضاع مزرية. واعتبرت هذه المرحلة من «تجليات» ما اصطلح عليه في الغرب (وتبعه الشرق) الربيع العربي، الذي تبيّن لكل ذي عقل يفكر به، أنه ليس ربيعاً، وإنما هو شتاء مستمر زمهريره، ومزمجرة عواصفه. ووصفُ ما حدث ويحدث في مصر بأنه «تجليات» هذا الربيع المتوهم، هو وصفٌ خادعٌ لأن «التجليات» تقرن بالإشراق وبالتفتح وبالتألق وبالإبداع وبكل ما فيه الخير العام والمصلحة للإنسان في يومه وغده. فالتجلي يكون للخير وليس للشر. وما يقع اليوم في مصر هو، بكل المقاييس، شرٌّ مستطير. إن مما يستغرب له خفوت صوت العقل في هذه المعمعة الصاخبة، وغياب الحكمة عن الساحة المضطربة، وبغض النظر عن الملابسات والأسباب، أو الحكم على الأحداث من هذه الزاوية أو تلك، فإن ما يستحق الوقوف عنده للتأمل في استغراق وللاعتبار بهدوء وللتقييم بميزان العقل والحكمة، هو هذا المخزون الهائل من الرغبة في التخريب والتدمير والقتل والإفساد في الأرض وإلحاق الضرر الفادح بالمصالح العليا للوطن التي فاجأت الجميع، مما يجعل استمرار الوضع في مصر على هذه الشاكلة، من شأنه أن يدمر البلد ويقوّض أركان الدولة المصرية، بخاصة إذا ما انتهى الأمر إلى ما يمكن أن نطلق عليه بكل أسف «الحرب الأهلية» التي إذا نشبت ستأكل الأخضر واليابس، وستكون لها تداعيات خطيرة وانعكاسات سلبية على مستقبل المنطقة برمتها، وستكون ذريعة لتدخلات أجنبية مضرة. وما يدريك أن هذه التدخلات قائمة بالفعل!. لا يصح دائماً النظرُ إلى اضطراب الأوضاع في مصر من الزاوية السياسية فحسب، فتلك نظرة قاصرة عن استيعاب الحقائق الدَّالة على طبيعة الصراع والشاهدة على عمق الأزمة. ولذلك فنحن نميل إلى اعتماد المنهج العلمي في تحليل ما يجرى على أرض مصر. وأول ما نلاحظه هو أن هناك تفاوتاً كبيراً في فهم الحالة المصرية واختلافاً شديداً في المفاهيم السائدة إلى درجة الخطورة، خصوصاً حين يصل الأمر إلى التعارض في فهم مدلول «الشعب»، ومفهوم «الإرادة الشعبية»، ودلالة «الديموقراطية»، والغاية من «العملية السياسية». إن هناك مدلولين مختلفين سائدين لكل هذه المفردات السياسية؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك «الشعب الحقيقي» الذي يعيش على أرض مصر، وهناك «الشعب الافتراضي» الذي يدور في مخيلة الطائفة الأعلى صوتاً والأوسع تأثيراً على ماجَريات الأحداث. ومن هنا ينشأ الخلاف المحتدم العصيّ على التسوية. الجماعة النافذة والمؤثرة في جزء من الشارع المصري، تتخيل الشعبَ وفقاً لتصورات منفصلة عن الواقع؛ فالشعب عندها هو ما تريده أن يكون عليه الشعب لا ما هو عليه الشعب في الواقع الحي المعيش. ولذلك يخيب أملها ويبطل تصورها إذا ما عبر الشعب الحقيقي عن رأيه وأكد اختياره وأثبت إرادته. وفي هذه الحالة، وطبقاً لمفاهيم علم النفس الاجتماعي وعلم النفس السياسي أيضاً، يكون هؤلاء يتوهمون ويحلمون مما يجعلهم مقطوعي الصلة بالشعب الحقيقي، ومنفصلينَ عن الواقع الذي يتحرك أمامهم. وهذه الظاهرة ليست حديثة العهد، ولا هي وليدة التحولات التي عرفتها مصر بعد 25 كانون الثاني (يناير) 2011، بل هي ظاهرة تعود إلى ستة عقود، حينما طغت الأوهام المهترئة، وشاعت الأفكار السياسية الخاطئة، وتراجعت الحقائق الدامغة. فليس صحيحاً تماماً أن ما تشهده مصر الآن أقرب إلى الهزات الأرضية التي تتوالى بعد حدوث الزلزال؛ لأن هذا الزلزال لم يستقر بعد، فهو حالة مستمرة. ولذلك فإن الأحوال في مصر، إذا لم يبادر الحكماء إلى إطفاء نار هذه الفتنة، ستزداد سوءاً على سوء، ولن تستقر على حال. ومن هنا تأتي الخطورة البالغة التي تكتسبها الأوضاع القلقة المتفجرة في مصر. إن واجب النصح أن نقدمه لمن له استعدادٌ لتلقيه، وأن ندق ناقوس الخطر في هذا الوقت العصيب خوفاً على مصر العروبة والإسلام، ونقول مخلصين: دعوا الشعب المصري يمارس إرادته، ولا تحولوا بينه وبين هذه الممارسة الديموقراطية، ولا تغتصبوا حقوقه تحت أي شعار، ولا تتيحوا الفرصة لأعداء مصر ليحققوا ما عجزوا عن تحقيقه بأساليب شتى، فقد عانى هذا الشعبُ طويلاً ، وشعوب عربية أخرى اصطلت ردحاً من الزمن بنيران الظلم والاستبداد واغتصاب الحقوق في الحياة الحرة العزيزة الكريمة. ويكفي الأمة ما تعانيه اليوم من ماسٍ وكوارث في فلسطين وسورية والعراق واليمن وأفغانستان ومالي والصومال وغيرها من المناطق في العالم الإسلامي، وما يحاك لها من مؤامرات وما يخطط لها من تغييرات ضد إرادة شعوبها. والعاقل مَن اتعظ بغيره. * أكاديمي سعودي