بعد طول انتظار وتسريبات مثيرة للمشاعر المتناقضة أعلن «معهد الإحصاء» في الأيام الأخيرة من 2012 نتائج الإحصاء الذي أجري في ألبانيا خلال 2011، وكشف مفاجآت في التركيبة الديموغرافية (والدينية بشكل خاص) للبلاد خلال العقد الثاني بعد سقوط حكم الحزب الشيوعي (1992). كان التركيز في الانتظار (مع التسريبات والتوقّعات المتناقضة) يتمحور حول الواقع الديني للبلاد بعد عقدين من الديموقراطية الجديدة التي جاءت بعد نحو خمسين سنة من حكم الحزب الشيوعي (1944-1992). فقد كانت ألبانيا التي استقلت عن الدولة العثمانية في 1912 أول دولة أوروبية بغالبية مسلمة وهي بذلك انضمت إلى عصبة الأمم في 1920، وقد بقيت هذه الغالبية (70في المئة مسلمون و 20 في المئة أورثوذكس و 10 في المئة كاثوليك) تميز ألبانيا مع تغيرات طفيفة من حين إلى آخر إلى أن انتصر الحزب الشيوعي في الحرب الأهلية في نهاية 1944 وأعلن ألبانيا بعدها «جمهورية شعبية» في 1946. ومع أن «تلميذ ستالين» أنور خوجا أخذ بنصائح معلّمه في البداية إلا أنه مال باتجاه ماو لاحقاً وأعلن «الثورة الثقافية» في 1966 التي أدت إلى إلغاء الدين وإقفال كل الجوامع والكنائس في ألبانيا لتعلن في 1967 «أول دولة ملحدة في التاريخ». نصيحة ستالين كان النجم الصاعد آنذاك أنور خوجا بعد نجاحه في الوصول إلى السلطة بمساعدة غربية (بريطانية وأميركية) وشرقية (سوفياتية ويوغسلافية) انحاز بقوة إلى الاتحاد السوفياتي منذ 1945 وإلى الخط الستاليني (بعد خلاف ستالين مع تيتو) وذهب في آذار (مارس) 1949 ليلتقي «المعلم» ستالين. وفي محضر الاجتماعات الذي كشف عنه مؤخراً فوجئ أنور خوجا بستالين يسأله عن أسماء أعضاء الوفد الألباني ليظهر أن غالبية الأعضاء الثمانية من الأقلية الأرثوذكسية، وهنا تدخل ستالين ليقول «إذا كان المسلمون يشكلون غالبية في بلد ما فيجب أن تمثل الحكومة هذه الغالبية ولا يجب أن يُغتصب دين الشعب». إلا أن أنور خوجا تخلص من نصيحة ستالين بعد موت معلمه في 1953 وانحيازه الجديد إلى الصين الماوية. «ربيع أوروبا الشرقية» في 1989 أرغم الحزب الشيوعي على القبول في 1990 بإنهاء احتكاره للحياة السياسية و بانبعاث المؤسسات الدينية للمسلمين والأرثوذكس والكاثوليك التي ألغاها في 1967 بعد أن مارس سياسة الخلط المبرمج (عن طريق الزواج) بين أتباع هذه الديانات. ومن هنا فقد صاحب التحول إلى الديموقراطية في 1990 تحوّل ألبانيا إلى دولة جاذبة للجماعات الدعوية والتبشيرية من الشرق والغرب بهدف استقطاب الأتباع القدامى (المسلمون والأرثوذكس والكاثوليك) أو نشر ديانات جديدة لم تكن معروفة بين الألبان (القاديانية والبروتستانتية الخ). وقد ساهمت هجرة الألبان الكثيفة إلى الدول المجاورة (وبخاصة اليونان الأرثوذكسية وإيطاليا الكاثوليكية) إلى تحوّل بعض الألبان عن ديانتهم السابقة للتكيّف مع المجتمعات الجديدة التي حلّوا فيها. وانتشرت في السنوات السابقة تقديرات مختلفة حول تحولات كبيرة في الخريطة الدينية في ألبانيا وأصبحت بعض الشخصيات الفكرية والسياسية والدينية تعترض على تسمية ألبانيا أنها «دولة مسلمة» أو «دولة بغالبية مسلمة»، مما أثار السجال في 2007 بعد تبني الكنيسة الأرثوذكسية ذلك الموقف. ولأجل ذلك فقد ازدادت الضغوط على رئيس الحكومة الألبانية صالح بريشا لإدخال الانتماء الديني ضمن خانات الإحصاء الجديد في 2011، وهو ما أقرّته الحكومة في 2010 على الرغم من المعارضة القومية العلمانية التي رأت في ذلك استسلاماً لضغوط اليونان والكنيسة الأرثوذكسية التي كانت ترى أن ألبانيا لم تعد «دولة بغالبية مسلمة». جرى إحصاء 2011 وسط سجالات كثيرة في الصحافة الألبانية مع دعوات لمقاطعة الخانة الخاصة بالانتماء الديني، وحتى مقاطعة الأقلية اليونانية (الأرثوذكسية) له لأنه لم يأخذ بالمعايير التي طلبتها. ولكن نتائج هذا الإحصاء التي أعلنت في الأيام الأخيرة من عام 2012 حملت مفاجآت من العيار الثقيل لكل الألبان، وبخاصة لمن كانوا يتشوقون لمعرفة ماذا تغير في ألبانيا بعد خمسين سنة من الشيوعية وعشرين سنة من الديموقراطية الجديدة. وربما يكون العنوان الأبرز لهذه النتائج «تقلّص الألبان والمسلمين في ألبانيا» لأن الإحصاء (الذي شمل من هو موجود في ألبانيا فقط) كشف تراجع عدد الألبان بشكل واضح (أقل بقليل من ثلاثة ملايين) أو أقل بحوالى 10 في المئة من الإحصاء الأخير الذي جرى في 2001! وكان عدد سكان ألبانيا قد بدأ يتقلص منذ تخلى الحزب الشيوعي عن احتكاره الحياة السياسية في 1990 حيث هاجر ربع سكان ألبانيا إلى الدول المجاورة (وبخاصة اليونان وإيطاليا) خلال العقد الأول للديموقراطية الجديدة بينما كشفت استطلاعات الرأي قبيل الإحصاء الأخير أن 31 في المئة من سكان ألبانيا يرغبون في مغادرة بلادهم! تبدل النسب كشفت نتائج الإحصاء عن تدني نسبة المسلمين إلى 56،49 في المئة وثبات نسبة الكاثوليك عند حالها (10،03 في المئة) وتراجع كبير في نسبة الأرثوذكس (6،75 في المئة فقط) والبكتاشية (2،09 في المئة) مقابل حوالى 14 في المئة رفضوا تحديد انتماءهم الديني. وعلى حين أن 82،58 في المئة من السكان أعلنوا عن ألبانيتهم وأقل من واحد بالمئة للأقليات الإثنية الأخرى (اليونانيون والغجر والفلاش والمكدونيون) فإنّ 99 في المئة أعلنوا أن الألبانية هي «اللغة القومية» لهم بينما توزعت نسبة 1 في المئة على اللغات اليونانية والغجرية المكدونية والفلاشية. جاء إعلان هذه النتائج ليقدم هدية للكاثوليك، الذين بدوا الأكثر تماسكاً واستمراراً بنسبتهم التاريخية، بينما جاء ليثير القلق والرفض لدى الأطراف الأخرى. وعلى حين أن هبوط نسبة المسلمين إلى حوالى 50 في المئة كان يثبت ما تقوله الكنيسة الأرثوذكسية في 2007 من أن ألبانيا لم تعد «دولة بغالبية مسلمة» إلا أنه فاجأ أكثر الكنيسة الأرثوذكسية التي كانت تتوقع أن تكون هذه النسبة (حوالى 50 في المئة) لصالح الأرثوذكس بعد ما قيل عن تحول عدد كبير من المسلمين إلى الأرثوذكسية في العقدين الأخيرين. والأكثر من ذلك، وهو ما أثار انزعاج الكنيسة أكثر، أن تصبح الكاثوليكية الديانة الثانية في ألبانيا. ومن هنا جاء اعتراض الكنيسة الأرثوذكسية أولاً ثم اعتراض الأقلية اليونانية على نتائج الإحصاء. وفي هذا السياق صرح «الاتحاد الديموقراطي للأقلية اليونانية» (أومونيا) انه يرفض نتائج هذا الإحصاء ويذكّر بأن الأقلية اليونانية قد قاطعت الإحصاء المذكور. ومن ناحية أخرى فإن نسبة المقاطعين لخانة الانتماء الديني (حوالى 14 في المئة) تدل إلى استجابة أنصار الحزب الاشتراكي المعارض في الجنوب (حيث يتمركز الأرثوذكس والبكتاشية) لتجاهل خانة الانتماء الديني. وبغض النظر عن هذه المواقف اللحظية يمكن القول إن جميع الأطراف المعنية ستراجع مواقفها لاحقاً لتكون منذ الآن أكثر استعداداً لإحصاء 2021!