يتعذّر رصد اتجاهات الاقتصاد العالمي راهناً. المؤشرات تخضع لتعديلاتٍ، بعد استبعاد التأثيرات الموسمية أو الاستثنائية. لكن ما يلوح في الأفق أن الركود يفرمل سرعته بهدوء. والمقارنات الإيجابية تتفوّق على السلبية باستثناء معدلات البطالة التي تسجل أرقاماً قياسية. والنتيجة شريحة واسعة من المستهلكين غير القادرين على الإنفاق في المستوى الذي سبق حصول الأزمة، وتالياً لا بدّ من كسر طوق الكساد في أسواق التجزئة لاستعادة قياسات الإنتاج وتعويض المبادلات التجارية التي قد تخسر من قيمتها هذه السنة نحو 10 في المئة بحسب تقدير منظمة التجارة العالمية، من نحو 19.2 تريليون دولار للسلع والخدمات في 2008. يقول الاقتصادي النمسوي جوزف شومبيتر (1883 -1950): «لا تقدم للسوق من دون من هم خارجها». ويقصد بخارج السوق، المستهلكين بمختلف فئاتهم وانتماءاتهم وفوارقهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. بعبارةٍ يعتبر شومبيتر «المستهلك»، المحرّض الأساس للاقتصاد، ومن دونه لا سوق للاستهلاك تروّج لمنتجات الصناعة والزراعة، وتواكبها خدماتٌ خاصة ترتبط بكل ناتجٍ من مكوّناتها. وتتطابق مقولة شومبيتر مع استشراف دلالات انبعاث الاقتصاد من رماد حرائق الأزمات المالية والانهيارات التي لحقت به. فالدلالات على الانبعاث لا تكتفي بوقف الانهيار عند القاع الذي بلغه، فمن دون استهلاك لا يعود النشاط إلى السوق، ومن دون تأمين الوظائف لا ينمو الاستهلاك. واللافت أن الرئيس الأميركي ورئيس مجلس الاحتياط الفيديرالي، تحدّثا عن الترابط بين النمو وفرص العمل، وتوافقا على أن بدايةً «خجولة» قد تحصل للاقتصاد، لكن نزف البطالة سيستمر، وطبعاً يهدّد السوق، خصوصاً أن المواطنين الأميركيين عدّلوا سلوكهم الإنفاقي وتحوّلوا إلى الادخار الفردي، بدل الاتكال على القروض الشخصية وبطاقات الاعتماد التي ساهمت في انفلاش الاستهلاك، ما شكّل أحد أسباب الأزمة. ثم إن المصارف تسعى إلى تسديد ما حصلت عليه من إعانات مالية سواء من مصارف مركزية أو من خزانات الدول، وتقنّن الإقراض، ليس فقط إلى المواطنين بل إلى المؤسسات والشركات أيضاً، وهذه بدورها تقلّص مستويات الاستثمار الذي يؤمن فرص العمل. فعلى رغم برامج الإنقاذ وخفض أعباء القروض، بفائدة تلامس الصفر كما في الولاياتالمتحدة، وتقترب من الوحدة العددية كما في منطقة اليورو، تمدّد الانكماش إلى أقصى مداه. الديون الخاصة ذهبت بعيداً. العملاء الذين كانوا يمسكون بالسيولة تحوّلوا من الاستثمار الذي يشكل أدنى خطر، إلى السندات العامة المشهورة من دون أخطار. «في مثل هذه الحالات، الدولة هي الوحيدة القادرة على اجتذاب الادخار، تحوّطاً من أنه لن يستثمر، وتضخه في الدورة الإنتاجية» (دورية ألترناتيف). وبمثل المسؤولية التي دفعت دولاً إلى إطلاق برامج إنقاذ، -- تشمل معظم الدول الصناعية المتقدمة وبلداناً ناشئة، وحضّت صندوق النقد الدولي على مساعدة البلدان الفقيرة أو التي هدّدها الإفلاس، - شكلت المسؤولية تحدياً أكبر للحكومات، لناحية «تأكيد» جدوى برامجها، خصوصاً أن قيمة برامج الحفز توازي في الإجمال نصيباً لا يتجاوز 2 في المئة من الناتج المحلي (تلامس لدى مجموعة العشرين نحو 11 تريليون دولار)، في حين يقتطع العجز العام عشرة في المئة من هذا الناتج في مجموعة الدول العشرين بحسب إحصاءات صندوق النقد الدولي. لذا تدخلت الحكومات، لتلعب دوراً أساساً في القطاع الخاص، سواء المالي أو الصناعي، وفرضت على أجهزتها المصرفية تصفية الشوائب والمخالفات من أنظمتها، وضبط عناصر المجازفة في استثماراتها، وتعزيز ملاءتها المالية بما يقوّي مناعتها تجاه احتمال حصول أية أزمة في المستقبل. تدخلت الدول في صناعة السيارات التي طلبت مساعدات، فأوجبت إعادة هيكلتها، وتنظيمها والتخلي عن مؤسسات تابعة إلى مؤسساتها الأم، والتخطيط لابتكار وحداتٍ مستقبلية قادرة على المنافسة في السوق. ولعبت الحكومات، التي دخل بعضها شريكاً في المؤسسات دور المحرّض لإنجاح المؤسسات المدعومة عن طريق الابتكار. التحريض هنا يعني وضع الاقتصاد في الحركة، بحيث يلعب «المقاول» دوراً في الابتكار، ليبتدع منتجات جديدة، أو يعتمد تقنيات حديثة أو يستخدم مواد أولية جديدة، وينفتح على أسواق غير مقصودة سابقاً. بخلاف الاقتصاد الساكن، المسمّى الدورة الاقتصادية في مفهوم شومبيتر. منطق هذه الدورة التوازن العام، فحركة الأسعار التكييفية تحقق التعادل بين المتغيرات الاقتصادية، وكل منتج يكافأ بسعره العادل. وتتميّز الدائرة الاقتصادية بحرية المنافسة والملكية الخاصة وتقسيم العمل بين العملاء. لكن الابتكار يكسر الروتين بين أساليب الإنتاج وسلوكية المستهلك. التغيُّر لا يمكن أن يحصل من تعديل الكمية بل من تحول في نوعية نظام الإنتاج. لذا، وبحسب مقولة شومبيتر، لا نهوض اقتصادياً من دون تعويم قدرة من هم «خارج السوق» على الاستهلاك، وتحقيق أمرين: استعادة ثقتهم بالاقتصاد ودعم قدرتهم على الاستهلاك.