قال لها السكرتير المتجهم مشفقاً ومحذّراً وهو يسد عليها الطريق: «لا تصعدي الدرج يا ابنتي، وعودي من حيث أتيت، إنه الأفضل لك.. صدقيني»، فلم تستجب للنصيحة، لترتقي السلم وتلتقي به، فتكون النتيجة أن احتاجت إلى عشر سنوات من عمرها كي تجد في نفسها الجرأة والقدرة على هبوط ذلك السلم ثانية، فتخرج من حياة الفنان الذي شغفت به حباً، وقد أصبحت أماً لطفلين وأنثى ناضجة غير تلك الفتاة الساذجة ذات ال22 ربيعاً التي التقى بها فنانها مصادفة ذات مساء في أحد المطاعم، ومع هذا، فهي ليست نادمة على أنها لم ترجع من حيث أتت كما طلب منها السكرتير العابس، وليست نادمة على السنوات العشر التي مضت من عمرها وهي تعيش بجوار فاتنها ومن أجله، بل إنها على العكس تماماً، فهي مدينة له بتلك السنوات التي خبرت خلالها أحاسيسها الثرية العميقة، وتعلمت فيها أسرار الحياة والحب والفن.. إنها مدينة له في النهاية بالمرأة المستقلة التي أصبحت عليها بعد سنواتها معه.. امرأة لا تعتمد على أحد في حياتها سوى على نفسها! إنه باختصار ملخص قصة الفتاة الشابة الفرنسية فرانسواز مع الفنان العبقري المجنون بيكاسو (1881-1973)، وهي أيضاً قصة كل إنسان يوشك أن يخطو خطوته الأولى في طريق واعد بالعذاب والمعاناة، ومع ذلك يجد نفسه مدفوعاً للمضي فيه على رغم كل النصائح. كلمة أخيرة: في حياة كل منا سلم يرتقيه، ولن يتعلم إذا لم يجرؤ على صعوده، فطول التجارب زيادة في العقل ومنها يأتي النضج، ومنها كذلك يأتي تحديد المرء لقراراته المستقبلية، فنحن لا نملك ترف عدم الندم على تجاربنا الفاشلة التي استهلكت فترات ثمينة من العمر، وانتهت بالخاتمة غير المرضية لتوقعاتنا، وقد نتعذب بالحسرة، كما نتعذب بالتجربة غير السعيدة نفسها، ونتمنى لو كنا قد سمعنا نصح الناصحين، ولم نصعد السلم، ولم نبدأ الرحلة التي رأى من حولنا أنها ستعيننا، فلم نر سوى رغبتنا فيها، ولكن ماذا لو أنها الطريقة الوحيدة بالثمن الذي دفعناه كي نتعلم درسنا! نعم ماذا لو كانت؟ فالإنسان له طبيعة غريبة وذاكرة أغرب، فمهما قرأ عن حياة الآخرين تجده لا يتنبه ولا يتعلم بقدر ما يعيشه ويلسعه ويُحفر داخله، فنتذكر ألمنا وفقدنا ولا نملك نفس الذاكرة مع آلام غيرنا، فنحن لم نشعر بها، ومهما حاول الآخرون أن يتعاطفوا معنا فلن يصلوا إلى عين درجات الحزن أو الغضب أو حتى الندم التي تشتعل في قلوبنا، لذا تجد المرء يتعلم من خسارته أكثر من فوزه، بل وغالباً ما يكون تلقي دروس الحياة من الخسارة وليس من الربح، غير أن قدرة البشر على تحمل أحزانهم تختلف، وكم تتضاءل كلما كان الجرح كبيراً والمفقود عزيزاً.. إنه حال الدنيا مع الجميع، فهل نضيف: بلا استثناء! لا أحد أكبر من الألم. وقالوا: «ينذرنا العقل بما يجب تجنبه، فيأتي القلب ويشير إلينا بما نرغب بالقيام به» جوبير. [email protected]