أوضح خادم الحرمين الشريفين مسألة في غاية الأهمية، في الكلمة التي ألقاها في حفل استقبال الشخصيات الإسلامية ورؤساء بعثات الحج في مشعر منى يوم عيد الأضحى الماضي، كان من الواجب نشرها على أوسع نطاق، وبلغات شعوب العالم الإسلامي كافة، حين قال في عبارات قوية: «إن فكرة مركز الحوار بين المذاهب الإسلامية لا تعني بالضرورة الاتفاق على أمور العقيدة، بل الهدف منها الوصول إلى حلول للتفرقة وإحلال التعايش بين المذاهب بعيداً عن الدسائس أو غيرها». وكان هذا التوضيح الجامع المانع، ضرورياً حتى يتجلى معنى القرار الذي اتخذته القمة الإسلامية الاستثنائية الرابعة المنعقدة في مكةالمكرمة في شهر رمضان الماضي، بإنشاء مركز للحوار بين المذاهب الإسلامية تكون الرياض مقراً له، بناء على الاقتراح الذي قدمه خادم الحرمين الشريفين. وواضح كل الوضوح أن الهدف من إنشاء مركز للحوار بين المذاهب الإسلامية، ليس هو الاتفاق على الأمور الاعتقادية، وإنما هو السعي لإزالة التفرقة أو حصرها في أضيق الحدود والحدّ من تأثيرها المدمر والعمل على تعزيز التعايش بين المسلمين، لأن ثمة مسافات، أحياناً تكون بعيدة، بين بعض المعتقدات لدى أهل السنّة والشيعة على سبيل المثال، تشكل في العمق خلافات حقيقية في المسائل الاعتقادية ليس إلى إزالتها من سبيل. بل إن طائفة من غلاة الشيعة لا تتردد في إخراج المذهب الإمامي الإثني عشري من دائرة المذاهب الإسلامية، وكأنه ديانة خاصة قائمة الذات، مما يسمح بالقول إن التقريب بين السنّة والشيعة في الأمور الاعتقادية لن يكون مطروحاً في المدى المنظور على الأقل، وأن الاشتغال بذلك عبث يتنزه عنه الحكماء ويرفضه العقلاء. إن المتطرفين من الشيعة يكفّرون أهل السنّة لأنهم لا يقولون بالولاية وبالوصية وبعصمة الأئمة. وهذا أمر ثابت ومشهود منذ قرون عدة وحتى اليوم لا سبيل إلى إنكاره. وهذا التطرف من الجانب الشيعي سلوك مرفوض تماماً شرعاً وعقلاً، لأنه يؤدي إلى تطرف مقابل من بعض أهل السنّة الذين يكفّرون الشيعة للأسباب الاعتقادية التي لا تخفى على العالمين ببواطن الأمور. وهذه مسألة بالغة الحساسية ينبغي التعامل معها بالحكمة ومعالجتها بما يلزم من صراحة وشفافية وبوعي رشيد. ولذلك، فإن الهدف الذي يجب أن يعمل الجميع، سنةً وشيعةً، من أجل تحقيقه، هو الحيلولة، وبشتى وسائل الحوار والدعوة بالتي هي أحسن، دون أن يؤدي الاختلاف في بعض المعتقدات إلى تبادل للتكفير؛ لأن التكفير مسألة خطيرة جداً وذات عواقب وخيمة، تتسبب في التفرقة وتمزق الصف، وفي إضعاف الأمة التي جعلها الإسلام أمة واحدة، وجعلها الجهل والتحزب والغلو والتطرف وممارسة الدسائس، أمة مشتتة مهيضة الجناح تتكالب عليها الأمم وتتآمر ضدها القوى العظمى التي تحركها الصهيونية العالمية وما يدور في فلكها من قوى كثيرة ذات أطماع حقيرة وأهداف شريرة تسعى إلى تحقيقها بشتى الطرق على حساب المصالح الحيوية للعرب والمسلمين في كل أصقاع الأرض. إن الواقع يشهد أن إيران وأعوانها لا يدخرون وسعاً من أجل نشر المذهب الشيعي الإمامي الإثني عشري في أوساط الشعوب الإسلامية التي لا صلة لها بهذا المذهب. وتلك ظاهرة خطيرة تهدد الأمن الفكري والسلم الأهلي في مناطق عدة من العالم الإسلامي، فضلاً عن أنها ظاهرة شاذة غير معهودة في حياة الناس، إذ إن الدعوة الدينية إنما تكون من أتباع دين من الأديان إلى أتباع دين آخر، وليس بين أهل الدين الواحد، اللهم إلا إذا كان الأمر بخلاف ذلك كما هو الشأن مع هؤلاء الذين ينشرون الفتنة في المجتمعات الإسلامية السنّية تحت دعوى نشر المذهب الشيعي. ففي هذه الحالة لا يتعلق الأمر بالمذهب، ولكن بديانة قائمة الذات، لأن اعتناق المذهب الشيعي يعني، وفق نظرهم، الانتقال من الضلال إلى الهدى. ومن يفعل ذلك يسمّونه «مُستبصراً». وفي كل الأحوال، فإن هذا الأمر خطير للغاية ستكون له انعكاسات مدمرة على حياة المسلمين في حاضرهم وفي مستقبلهم. ومهما يكن من أمر، فإن الضرورة تقتضي التعامل مع الفتنة بعقل مستنير وبحكمة بالغة وبروح الأخوة الإسلامية التي من المفترض أنها تجمع بين أهل القبلة، باعتبار أن من يناصب الإسلام العداء جهراً أو سراً، لا يفرّق بين السنّة والشيعة، وإنما هو يسعى للتفرقة بين المسلمين، ويعمل جهده لتأليب هذا الفريق ضد الفريق الآخر، وتأجيج الصراع الطائفي. ومن المؤسف أن تستجيب إيران لهذه السياسة الاستعمارية المعادية، بانخراطها في نشر الفتنة بين المسلمين وإضرام نيران الصراع الطائفي والزج بالعالم العربي الإسلامي في لجج من الفوضى الهدامة. وفي ذلك، سواء أكانت إيران تعلم أم لا تعلم، خدمة للقوى المعادية للعرب وللمسلمين جميعاً. إن إحلال التعايش محل الصراع الطائفي وإيجاد حلول للتفرقة بالقضاء على أسبابها ودواعيها، يأتيان نتيجة للحوار الصريح الواضح الذي لا لبس فيه، بعيداً من الدسائس التي لا تخفى على ذي علم ومعرفة وخبرة. ومما لا شك فيه أنّ الذين يدفعون بالأمور إلى المواجهات الاعتقادية ومحاولات نشر المذهب علانية أو تقيّة، يخطئون السبيل، ويسدّون منافذ الحوار بين المذاهب الإسلامية، ويضيّقون على المسلمين الفرص الممكنة للوصول إلى حلول للتفرقة والتباغض وإحلال للتعايش والتراحم بعيداً من الدسائس أو غيرها من عوامل تفتيت وحدة الأمة. * أكاديمي سعودي