مرة أخرى وبعد أربع سنوات يعود العالم ليركز سمعه وبصره على تفاصيل الأيام الأخيرة في انتخابات الرئاسة الأميركية. مرة أخرى وبعد أربع سنوات نسأل السؤال نفسه مع توابعه. لماذا يهتم الآخرون، في بقية أنحاء العالم، بانتخابات تجرى في أميركا من دون غيرها من الدول؟ وهل ارتفعت درجة الاهتمام هذه المرة عن المرة السابقة، أم لوحظ انحسار هذه المرة أم بقي الاهتمام عند مستوى المرة الفائتة؟ ما زلنا نقر بأن أميركا هي الدولة الأقوى اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وإن أقل قوة، وبأن ما يحدث فيها أو يصدر عنها ما زال يؤثر فينا وفي غيرنا من أمم الأرض وإن بدرجات متفاوتة. هذا الإقرار في حد ذاته يصلح لتبرير جانب أو آخر من اهتمام العالم بانتخابات رئاسة تجرى في أميركا كل أربع سنوات، ولكنه بالتأكيد غير كاف لتبرير أبعاد الظاهرة كافة. منذ عقود عدة ونحن شهود على اهتمام عالمي بالانتخابات الرئاسية في أميركا. صحيح أن القيادة الدولية كانت موزعة بين الاتحاد السوفياتي والولاياتالمتحدة، ولكن كانت أميركا اللاعب الأقوى في كثير من الأزمات الدولية والقائد الأعظم المهيمن على مصالح دول الغرب والشركات العالمية العظمى والمناهض القوي لحركات التحرير في دول العالم النامي. الجديد في الظاهرة منذ عقدين على الأقل هو انتقال أميركا من موقع الشريك المتميز قي قيادة ثنائية إلى موقع المهيمن الذي تصور أنه صار الأوحد من دون قيود أو شركاء أو مسؤوليات فوق احتماله. الجديد أيضاً هو هذا العمل الدؤوب الذي صارت تقوم به الآلة الإعلامية والسياسية الأميركية للترويج عالمياً لعملية الانتخابات الأميركية. لا أستطيع إنكار جدوى التخطيط المذهل من أجل فرض الحملة الانتخابية للرئاسة الأميركية على الرأي العام العالمي نموذجاً لعملية ديموقراطية جديرة بأن تحتذى. لا أحد ينكر إبداع القائمين على تنظيم الانتخابات الرئاسية وبخاصة بعد أن أصبحت مشروعاً استثمارياً برأسمال يتجاوز البليونين من الدولارات. تجلى الإبداع في أساليب مبتكرة لإثارة حماسة الرأي العام حول قصة أو أخرى من قصص الانتخابات. استطاعوا أن يخططوا ويخرجوا مناظرات بين المرشحين صار لها حظوة لدى الرأي العام فاقت أحياناً الحظوة التي تتمتع بها أقوى المسلسلات الأميركية. هناك أيضاً الفنون الحديثة في إنتاج وإخراج المؤتمرات الانتخابية والاحتفالات الأقرب إلى حفلات السحر والشعوذة التي تشتهر بها تقاليد الشعوب الأصلية. خلاصة الأمر هي في القول إن الآلة السياسية الأميركية وجدت في «تدويل» انتخاباتها الرئاسية الدورية وسيلة مهمة تتقدم على مختلف وسائل حشد الرأي العام العالمي وأدواته سنداً للديموقراطية الأميركية ودعماً لعملية الغزو الأيديولوجي الأميركي وتعزيزاً لتجارب المرحلة الانتقالية التي تمر فيها معظم دول أميركا اللاتينية وشرق أوروبا وجنوب شرقي آسيا وكذلك بعض الدول العربية. لا شك في أن القوة المطلقة الأميركية والجهد المبذول لنشر الفكرة الديموقراطية مبرران مهمان ولكنهما غير كافيين وحدهما لتبرير ظاهرة الاهتمام بانتخابات الرئاسة الأميركية في مختلف دول العالم، إذ يجب أن نضع في اعتبارنا حقيقة هي الأخرى جديدة وهي أن أميركا وإن كانت في نظر قطاعات في الرأي العام ما زالت الدولة الأقوى، إلا أنها في نظر قطاعات أخرى دولة تنحدر مكانتها كقوة أعظم صانعة ومخلّفة في مسيرة انحدارها مشكلات وأزمات بعضها بالغ الخطورة. أميركا تنسحب بتدرج، وهنا ربما تندرج أهمية الانتخابات الرئاسية الأخيرة، لأن الانسحاب في ظروف عالمية حساسة مسألة تستدعي قيادة حكيمة وخبرة معتبرة لدى من يتولى مسؤولية قيادة أميركا خلال «مرحلتها الانتقالية». نظرة سريعة إلى خريطة العالم السياسية الراهنة توضح مدى العجز في السياسة الخارجية الأميركية في ظل مرحلة القيادة «المنفردة». إن غالبية تجارب السياسة الخارجية الأميركية خلال هذه الفترة ومنها تجربة التدخل في أفغانستان أكدت تعدد مظاهر العجز في السياسة الخارجية الأميركية. أفغانستان تثير الآن وبعد أكثر من عشرة أعوام، زوابع من الأسئلة الغامضة عن مستقبلها وتنذر بعواقب رهيبة في منطقة وسط آسيا وعلى العلاقات بين الهند وباكستان وإيران. كذلك حال التجربة في العراق التي خلفته تابعاً لإيران ومهدداً بالتفكك وموطناً لكوابيس رعب هائلة. بل إن تجربتها الأحدث مع سورية تؤكد للملأ حلفاء وحاسدين مدى العجز الذي أصاب إدارة صنع السياسة الخارجية الأميركية في ظروف المرحلة الانتقالية الراهنة في ميزان القوى الدولية. ومن نواحٍ كثيرة معروفة، هناك عجز في التعامل مع قضية إيران وفي العلاقات مع دول الخليج التي لم تعد مطمئنة إلى كفاية عناصر الردع والحماية في السياسة الخارجية الأميركية. هناك أيضاً تعثر في عملية وضع وتحديد أهداف قومية أميركية في منطقة شرق آسيا حيث يتهدد أمن واستقرار اليابان، الحليف الأقدم والأهم لأميركا في شرق آسيا وحيث يسود التوتر دولاً عدة في جنوب شرقي آسيا في مرحلة من أهم مراحل التطور الإقليمي، وهي مرحلة بناء نظام توازن قوة جديد في الإقليم. هناك أيضاً عجز أو غموض أو تعثر لا يقل أهمية في مسيرة بناء علاقة جديدة مع روسيا، إذ لا يعقل أن يصل أحد المرشحين إلى الرئاسة في خطاباته الانتخابية إلى حد وصف روسيا بالعدو الرئيسي لأميركا في الخارج بينما تسعى أجهزة صنع السياسة في الدولة إلى بناء علاقة جديدة تسمح لروسيا بممارسة نوع أو آخر من الهيمنة على دورها وتمنعها في الوقت نفسه من التخطيط أو السعي للعودة إلى ممارسة مهام والتدخل تحت وهم المشاركة في قيادة العالم. يذكر أن الاهتمام بالانتخابات الأميركية لم يكن على مستوى واحد في أنحاء العالم. لم تتح لي فرصة انتظار تقارير مفصلة ومزودة باستقصاءات محترمة قبل البدء في كتابة هذه السطور. ومع ذلك تكشف التقارير الأولية عن انحسار الاهتمام في أميركا اللاتينية بالمقارنة بمرات سابقة. أستطيع أن أفسر هذا الانحسار بأمرين على مقدار كبير من الأهمية، أولهما أن شعوب أميركا اللاتينية استحوذت أخيراً على مقدار عال من الثقة بالنفس لم تتمتع بمثله مسبقاً. بمعنى آخر لم تعد أميركا الشقيق الأكبر المنقذ ولا هي الوحش المتربص بأشقائه في الجنوب. أما الأمر الآخر فيتعلق بتدهور اهتمام السياسة الخارجية الأميركية وبخاصة في ظل إدارة أوباما بشؤون أميركا الجنوبية وهو ما دفع بالضرورة إلى إهمال مقابل. أرى أمامي وبوضوح شديد قارة هي الأقرب إلى الولاياتالمتحدة تشعر قبل غيرها بأن واشنطن دخلت مرحلة انتقالية، ولن تعود كما كانت. من ناحية أخرى أعتقد، وبكل وضوح أيضاً، أن الأوروبيين صاروا يدركون من واقع تجربتهم الخاصة خلال السنوات الأربع الماضية خطورة ما توصل إليه قادة وشعوب أميركا اللاتينية وأهميته. العالم يدرك المدى الذي انحدرت إليه القوة الأميركية واستناداً إلى هذا الإدراك بدأت دول كثيرة تستعد لمرحلة تنتقل فيها أميركا نفسياً وقوة ونفوذاً إلى مستوى ومكانة أقل مما تعودت عليه. أمل هذه الدول، وأظن أن أوباما وناخبيه يشاركونها، أن يتحقق الانتقال بيسر وسهولة وبأقل انفعالات وتشنجات من كل الأطراف. * كاتب مصري