بعد الحادث الدموي في إقليم شينغيانغ الصيني أبدت وسائل إعلام عربية اهتماماً كبيراً بالحادث، وهو أمر طبيعي في اعتقادي نظراً لأن الحادث يتعلق بأبناء المسلمين من قومية الويغور. لكني لاحظت بأسف شديد، من خلال متابعتي بعض التغطيات الإعلامية وردود الفعل العربية، أن كثيراً من الأحكام والآراء كانت مبنية على أساس معلومات خاطئة، الأمر الذي يحدوني الى كتابة هذه المقالة، لا للدفاع عن الموقف الحكومي، الشيء الذي يترفع عنه المثقف الحر عادة، ولكن لإزالة الغموض والعقد النفسية في الصداقة الصينية - العربية التي تخدم مصالح الشعبين. بداية، أذكر مقالة الحقوقي الدولي الأستاذ محمود المبارك التي نشرت في «الحياة» بتاريخ 13 تموز (يوليو) 2009 كمثال لردود الفعل العربية على الحادث. استخدم الأستاذ محمود عبارات مثل «أعمال القمع» و «القمع الديني» و «جرائم ضد المسلمين» لوصف الحادث، ويبدو أنه يميل أيضاً إلى الموافقة على تهمة «الإبادة الجماعية» التي أطلقها السيد أردوغان رئيس الوزراء التركي (وهي تهمة كان يجب أن يتأنى أي رجل دولة تركي قبل إطلاقها لأنها تذكرنا بالتهمة الموجهة إلى تركيا نفسها على أساليب معالجتها الملفين الكردي والأرمني). لكن الحادث الذي أعرفه أبعد ما يكون عن أن يوصف بتلك الأوصاف العاطفية، ولا أزعم أن روايتي تمثل الحقيقة الكاملة وحسبي أن أطرحها أمام القراء العرب ليحكموا بأنفسهم. بدأ الحادث في مساء الخامس من تموز 2009 في مدينة أورومتشي حاضرة إقليم شينغيانغ، عندما تظاهر بعض الشبان من قومية الويغور احتجاجاً على اشتباك عرقي وقع في مصنع في مقاطعة قوانغدونغ قبل عشرة أيام تقريباً. الاشتباك الذي أدى إلى وفاة عاملَيْن ويغوريين وإصابة عدد من العمال من قوميتي الويغور والهان، (قومية تشكل الغالبية العظمى من الصينيين). وانقلبت التظاهرة فجأة وبسرعة خاطفة إلى أعمال شغب في عشرات المواقع في المدينة في شكل متزامن، حيث قامت مجموعات من الشبان الويغوريين بإحراق السيارات والمحال وضرب الأبرياء وقتلهم رجالاً ونساء وأطفالاً، وكان معظم القتلى، ويبلغ العدد قرابة مئتي قتيل، من قومية هان إضافة إلى قتيل واحد على الأقل من قومية خوي المسلمة. ولم يبث التلفزيون الصيني الرسمي إلا لقطات محدودة من مشاهد الحريق والقتل، خوفاً من إثارة الرعب والكراهية ضد أبناء الويغور، ولكن، ما كانت تتناقله مواقع الانترنت من الفيديوات والصور في الأيام الأولى بعد الحادث - وقد أتيحت لي مشاهدة بعضها- تبيّن مدى شناعة الجريمة ضد الأبرياء، كقطع الرؤوس وضرب المارة بالأحجار الكبيرة والهراوات الحديد والخشب حتى ينفثوا آخر زفرات حياتهم. إنها مشاهد تبعث الاشمئزاز والقشعريرة حقاً، وتبرهن على جرائم لا يقبلها أي إنسان ذي ضمير حي بغضّ النظر عن انتمائه الديني أو العرقي، لذا فمن الطبيعي أن يستنكرها كل من شاهدها بأم عينيه، كما صرّح بضعة وعشرون مواطناً من قومية الويغور عندما قالوا في مقابلة صحافية أجراها الصحافي الأميركي اندرو جاكوبس: «إن هؤلاء الناس ليسوا سوى قمامة بشرية.» (Those people are nothing but human trash) (راجع مقال الصحافي في صحيفة «نيويورك تايمز» بتاريخ 19 تموز 2009). وقالت مصادر حكومية إن الشرطة التزمت الحد الأقصى من ضبط النفس ولم تقتل إلا 12 مشاغباً في محاولات للسيطرة على الوضع، وأميل إلى تصديق هذه المقولة لأن الشرطة لو لجأت حقّاً إلى العنف القاتل لما كان المشاغبون أقدموا على نشر الشغب في أنحاء المدينة، ولأنّ عدداً كبيراً من شهود العيان من قوميات مختلفة ومنها قومية الويغور، إضافة إلى بعض السياح الأجانب، ذكروا لوسائل الإعلام الصينية والأجنبية أن المشاهد السائدة هي قتل الأبرياء على أيدي المشاغبين. كما أن خروج عشرات الآلاف من أهل قومية هان في اليومين التاليين للحادث إلى الشوارع لأخذ الثأر بأنفسهم يدلّ على عدم رضاهم من ضبط النفس المبالَغ فيه في مكافحة الشغب، في نظرهم. ويتضح مما سبق أن طبيعة الحادث أنه أعمال شغب وقتل مارسها بعض المشاغبين المتطرفين ضد المدنيين الأبرياء، فأي حق في العالم يسوِّغ وصف هذه الأعمال ب «تظاهرة سلمية»؟ ووصف مرتكبيها ب «مقاتلين أحرار»؟ وإذا جاز أن نطلق على المحاولات لإخماد الحادث وصف «القمع الديني» لسبب بسيط هو أن المشاغِبين الملاحَقِين هم «مسلمون» (وأرفض أن أعتبرهم مسلمين حقيقيين لأن الإسلام برئ منهم تماماً)، فماذا نقول عن الأعمال المماثلة لملاحقة المشاغبين والإرهابيين «المسلمين» في عدد من الدول العربية والإسلامية؟ ولم يخطئ الأستاذ محمود المبارك في فهم طبيعة الحادث فقط بل وقع في أخطاء كثيرة في فهم تاريخ قومية الويغور، حيث كتب في مقالته أن «هذا الإقليم – المعروف سابقاً باسم تركستان الشرقية، كان تحت السيادة التركية فترة طويلة من الزمن، قبل أن يعلن الإقليم استقلال دولته تحت مسمى «جمهورية تركستان الشرقية»، التي ما لبثت أن تلاشت تحت السيطرة الصينية في حكم ماو تسي تونغ، والذي أطلق عليه اسم «الجبهة الجديدة» أو شينغيانغ». وأي قارئ جدّي للتاريخ الصيني أو تاريخ آسيا الوسطى يدرك أن ذلك الإقليم – الذي سمي في تاريخ الصين القديم ب «شي يو» أي «المناطق الغربية»، انضم إلى الحكم الصيني منذ عهد الهان الملكي الغربي (دام من عام 206 قبل الميلاد إلى عام 220 الميلادي)، وكان الأدب الصيني القديم حافلاً بأشعار تصف جمال الطبيعة وقسوتها في هذا الإقليم. وأطلق عليه اسم شينغيانغ أي «الحدود الجديدة» أو «الجبهة الجديدة» في عام 1884 في عهد الإمبراطور قوانغ شي في عصر تشين، وليس في عهد ماو تسي تونغ الذي استولى على حكم الصين بعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949 (وليس عام 1946 كما كتب الأستاذ محمود خطأ في سياق آخر في المقالة)، أما ما يسمى «جمهورية تركستان الإسلامية الشرقية»، فلم يأت إلى الوجود إلا في عام 1933، ودام لثلاثة أشهر فقط، وظهر بعده ما يسمى ب «جمهورية تركستان الشرقية» عام 1944، لكن زعماءها انضموا إلى صفوف الجيش الصيني بعد أن تولى الحزب الشيوعي الصيني حكم الصين. ولم يقع الإقليم عبر تاريخه المديد تحت السيادة التركية ولو يوماً واحداً، على رغم أن لغة قومية الويغور قريبة من اللغة التركية كما الحال في العديد من أمم آسيا الوسطى. وإذا صح أن الصين الجديدة سلبت الإقليم من السيادة التركية فكيف نفسر أن تركيا الحديثة أقامت علاقات ديبلوماسية مع الصين منذ عام 1971 وحافظت على علاقات وثيقة معها؟ بل كيف نفسر أن تركيا ترفض حتى يومنا هذا منح زعيمة الانفصاليين ربيعة قدير تأشيرة الدخول إلى أرضها؟ ويتضح من هذا السرد الموجز لتاريخ الإقليم أن دعوة انفصال الإقليم عن السيادة الصينية لا تستند إلى أسس تاريخية أو قانونية. ويؤسفني أيضاً أن الأستاذ محمود المبارك رسم في مقالته صورة قاتمة لوضع الإسلام والمسلمين في الصين اليوم، إذ رأى أنه على رغم أن الصين تغيرت كثيراً في العقدين الأخيرين «إلا أن أمراً واحداً لم يتغير: ذلك الأمر هو سياسة القمع الداخلية ضد المسلمين»! كما كتب حرفياً ما يلي: «منذ أن استولى الشيوعيون على الحكم عام 1946، فُرض على المسلمين الزواج المختلط وصُودرت أملاك الأوقاف الإسلامية، ومُنع الوعاظ والمدرسون الشرعيون من التدريس، وهُدمت غالبية المساجد، وأُحرقت الكتب الإسلامية، وأُغلقت المدارس الإسلامية، وتم القبض على زعماء المسلمين وزج بهم في المعتقلات». ولا بد من أن أقول إن هذه الصورة مغايرة تماماً للحقيقة، وسيشهد لي كل عربي مسلم زار الصين والتقى المسلمين هنا أو في الخارج. وسأكتفي في هذا السياق بعرض بعض الأرقام وذكر تجاربي الشخصية. فبحسب دراسات ميدانية قام بها العالم المسلم يانغ شينغ مين، قارب عدد المساجد في شينغيانغ وحدها 25000 مسجد حالياً بعد أن كان عددها 9000 مسجد في عام 1984، أما في الصين كلها، فتجاوز عدد المساجد 30000 مسجد بحسب إحصاء عام 2000، ومن المؤكد أن العدد زاد بكثير خلال الأعوام الأخيرة. ووفقاً للتعداد السكاني الوطني (يجرى مرة واحدة كل عشر سنوات) في عام 2000، زاد إجمالي عدد المنتسبين إلى القوميات المسلمة العشر في الصين على 20 مليون نسمة، محققاً زيادة نسبتها 13.38 في المئة عن التعداد في عام 1990. وتنتشر في المناطق المأهولة بالمسلمين مئات المدارس التي تعنى بتدريس العلوم الإسلامية بالإضافة إلى علوم حديثة أخرى، كما أن في البلاد حالياً عشرة معاهد عالية خاصة بتدريس العلوم الإسلامية، أما الجامعات التي أنشئ فيها تخصص في اللغة العربية، فقد ازدادت من سبع جامعات في ثمانينات القرن الماضي أيام كنت طالباً جامعياً في اللغة العربية لتصبح 25 جامعة اليوم. أما الزواج المختلط المفروض على المسلمين فهو أقرب إلى حكاية أسطورية، فمن المعروف أن المسلمين الصينيين، وبخاصة السكان في شمال غربي الصين، يأبون عقد الزواج إلا مع بنات وأبناء المسلمين. ولا يتزوج المسلم (أو المسلمة) من فتاة أو فتى من غير المسلمين إلا إذا اعتنق الفتى (أو الفتاة) الإسلام. فزميلتي في الجامعة الأخت وو شياو تشينغ (زينب) حاملة شهادة الدكتوراه في الأدب العربي من الجامعة الأردنية والمنتسبة إلى قومية خوي المسلمة، تزوجت من طبيب من قومية هان في بكين، بعد أن أسلم الطبيب الشاب. ولحسن حظي أني تعرفت على ثلاثة أشهر علماء مسلمين في الصين (رحمهم الله) عندما كنت طالباً فمدرساً في الجامعة، منهم العلامة عبد الرحمن ناتشونغ، الأستاذ في جامعة الدراسات الأجنبية في بكين التي أعمل بها حالياً، وقد تتلمذت على يده لدراسة التاريخ العربي والثقافة العربية الإسلامية، وحصل الأستاذ على جائزة الشارقة للثقافة العربية عام 2001 (تقاسم الجائزة مع الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح)، كما فاز مراراً بشرف الأستاذ النموذجي على مستوى بكين ومستوى الدولة. ومنهم المستعرب الكبير محمد مكين، الأستاذ في جامعة بكين الذي ترجم معاني القرآن الكريم إلى اللغة الصينية و «كتاب الحوار» لكوفوشيوس إلى اللغة العربية، وإليه يرجع الفضل في إدراج اللغة العربية للمرة الأولى في مناهج التعليم العالي الصيني، واحتفلت جامعة بكين قبل ثلاثة أعوام بالذكرى المئوية لميلاده، وخصصت جائزة تحمل اسمه لتشجيع طلاب اللغة العربية على الدراسة. ومنهم أيضاً المستعرب رضوان ليو لين روي، الأستاذ في جامعة بكين أيضاً، وصاحب الفضل الأول في تأليف معاجم عدة مهمة في اللغتين العربية والصينية، ومترجم روايات عدة صينية وعربية حديثة. وتجمع بين هؤلاء العلماء والمستعربين الكبار صفات مشتركة، هي الإخلاص للدين وحب الوطن والتفاني في العلم والعمل، وبذلك كسبوا احترام ومحبة الجميع، مسلمين أو غير المسلمين. وصحيح أن المسلمين في الصين عانوا من بعض التصرفات اليسارية المتطرفة أيام «الثورة الثقافية» التي دامت عشر سنوات في القرن الماضي، لكنها معاناة لم يسلم منها الشعب الصيني ككل، بصرف النظر عن الانتماء العرقي أو الديني، وكان على رأس المتضررين من «الثورة» رئيس الجمهورية آنذاك السيد ليو شاو تشي الذي تعرّض لعذاب قاسٍ حتى نفث أنفاسه الأخيرة في السجن، ورجل الدولة الكبير السيد دنغ شياو بينغ الذي زج به في السجن مراراً قبل أن يقود حملات إصلاحية كبرى إثر وفاة ماو تسي تونغ فغير الصين تغييراً مصيرياً. وبعد قراءتي لمقالة الأستاذ محمود المبارك ترسخ عندي انطباع هو أن الأستاذ محمود لم تتح له فرصة زيارة الصين، لأنه لو زار الصين ورأى فيها ما يرى والتقى من يلتقي لما أطلق مثل هذه الأحكام الخاطئة والجائرة، لذا أدعوه في هذه المناسبة الى زيارة الصين فالمثل يقول: ليس الخبر كالعيان. ولا بد من أن أشير هنا إلى بعض الدروس والعبر التي يجب على الصين أن تستخلصها من هذه الحادث، إذ أنه سلّط الضوء على العيوب والنقائص في السياسة الصينية ولا سيما السياسة الخاصة بالأقليات. 1- التنمية الاقتصادية شرط مهم لحل مسألة الأقليات القومية، فقد برهنت التجارب في دول كثيرة أن الفقر يولّد عادة التطرف والعنف. والمعروف أن الصين حققت في العقود الثلاثة الماضية نمواً اقتصادياً هائلاً، ونتيجة لذلك يتفوق إقليم شينغيانغ على معظم الدول المجاورة في النمو الاقتصادي والمستوى المعيشي، إلا أن النمو الصيني لم يكن متوازناً متساوياً، لا بين مناطقها الشرقيةوالغربية، ولا بين مدنها وأريافها، فلا تزال المناطق الغربية في شكل عام وأريافها في شكل خاص متخلفة بالقياس إلى شرقي البلاد. وفي إقليم شينغيانغ ذاته، توجد فجوة تنموية بين المدن والأرياف وبين شمالي الإقليم وجنوبه. وصحيح أن معيشة الشعب الويغوري تحسنت كثيراً في العقود الماضية، إلا أن بعضهم يشعر أنه لم يستفد بالقدر الكافي من النمو الصيني، خصوصاً بالمقارنة مع قومية هان في شرقي البلاد، فتولَّد في النفوس لإحساس بالتهميش وعدم المساواة. وقيل إن عدداً كبيراً من المشاغبين في الحادث الأخير هم المهاجرون إلى مدينة أوروموتشي من جنوبي شينغيانغ الفقير نسبياً. فقد جاء الحادث بمثابة ناقوس إنذار للحكومة المركزية: حقّاً آن الأوان لحل مشكلة الفجوة التنموية! 2- لا تكفي التنمية الاقتصادية وحدها لحل المسألة، ويبدو أن القيادة الصينية في الفترات الماضية أدركت أهمية التنمية الاقتصادية، بيد أنها أهملت إلى حد ما الجوانب السياسية والثقافية للمسألة، فتحسُّن المستوى المعيشي يعزز عادة الشعور بوجوب المشاركة السياسية وضرورة إثبات الهوية الثقافية. وفي هذا الصدد يمكن القول إن القيادة الصينية لم تهتد بعدُ إلى وسائل ناجحة لضمان المشاركة السياسية للمواطنين، لا بالنسبة الى أبناء الويغور فقط، ولكن بالنسبة إلى الشعب الصيني كله. فمن دون المشاركة السياسية الحقيقية، لن يشعر المواطنون أنهم سادة حقيقيون للبلاد. أما من الناحية الثقافية، فعلى رغم أن الحكومة بذلت جهوداً للحفاظ على الهوية الثقافية للمسلمين الويغوريين، إلا أنها حاولت أيضاً إصلاح تلك الثقافة لجعلها تواكب تطور العصر وتتفق مع متطلبات الحداثة، ويبدو أن الحكومة لم تحقق النجاح المرجو في خلق التوازن الدقيق بين الأصالة والحداثة. 3- تطبق الحكومة الصينية نوعاً من التمييز الإيجابي في تعاملها مع الأقليات القومية، وفي ما يخص سياسة تنظيم الأسرة، يحق لأبناء الأقليات إنجاب مولودين أو ثلاثة، بينما لا يحق لأبناء قومية هان إلا إنجاب مولود واحد. وفي الامتحانات للقبول الجامعي، يسمح لأبناء الأقليات دخول الجامعة بدرجات أقل من أبناء هان، وفي حالة قومية الويغور، يصل الفارق في الدرجات إلى مئتي درجة أحياناً! ذلك إضافة إلى معاملات تفضيلية أخرى لمصلحة الأقليات. ولا شك في أن هذا التمييز الإيجابي ضروري لمساعدة الأقليات وتعزيز انتمائهم الوطني، إلا أن تعميمه إلى جوانب أخرى – وبخاصة الجانب القضائي- قد أتى بآثار سلبية. فمن المعروف لدى الصينيين أن الشرطة وأجهزة القضاء تتساهل غالباً مع أعمال السرقة والنهب التي يمارسها بعض الويغوريين، خشية من إثارة المشاكل العرقية والدينية. فالحي الواقع في شرقي جامعتي مثلاً، كان يسكن فيه مئات الويغوريين في بكين. ولا أبالغ إذا قلت إن معظم السكان في الأحياء المجاورة اختبروا حوادث السرقة من قبل بعض الشبان الويغوريين، لأنهم يدركون أن الشرطة لن تعاقبهم إلا في حالات نادرة. هكذا يعوز هؤلاء الشبان الإحساس القانوني، وتتعزز لدى أبناء هان الصورة السلبية النمطية عن قومية الويغور والإحساس بعدم المساواة في الحقوق والواجبات، مما أحدث عقبات لتحقيق التناغم القومي. 4- تفتقر قومية الويغور وقومية هان إلى التفاهم المتبادل ناهيك عن الإعجاب المتبادل ثقافياً، ويجهل معظم أبناء هان، حتى المقيمون في شينغيانغ نفسها، المعلومات الأساسية عن قومية الويغور ودين الإسلام، الأمر الذي يكشف نقصاناً واضحاً في السياسة التعليمية الصينية. ونتيجة لذلك، كثرت الإشاعات على الانترنت في أعقاب الاشتباكات العرقية التي وقعت في مصنع في مقاطعة قوانغدونغ، الإشاعات التي تشوه حقيقة الاشتباك وتعطي صورة سلبية عن قومية الويغور، وبالتالي تثير غضب أبناء هذه القومية. 5- لا شك في أن وراء حادثة شينغيانغ عوامل خارجية أيضاً، فقد ساهمت عوامل عدة في بروز نزعة الانفصال والتطرف لدى شرائح من الويغوريين في العقدين الأخيرين، ومن هذه العوامل إعلان العديد من الجمهوريات التابعة للاتحاد السوفياتي سابقاً استقلالها بعد تفككه، خصوصاً أن بعض هذه الجمهوريات قريبة من قومية الويغور عرقياً ولغوياً. ومنها أيضاً شيوع الأفكار الأصولية التكفيرية في أفغانستان وباكستان ودول أخرى مجاورة لشينغيانغ، ومد بعض القوى الغربية المعادية للنظام الصيني يد العون للانفصاليين علناً أو سرّاً، وساعد انتشار الانترنت ووسائل الاتصال الحديثة هذه العوامل الخارجية على أداء دورها في إثارة المشاكل. 6- كشف الحادث أيضاً السلبيات الكامنة في الأنظمة الإدارية والقضائية في الصين حالياً، فبعد الاشتباكات العرقية في مقاطعة قوانغدونغ، لم تبلغ المعالجة القضائية للأزمة المستوى المطلوب من السرعة والشفافية مما أتاح للمشاغبين حججاً لإثارة الشغب. كما لم تظهر الدوائر الأمنية في شينغيانغ المهارة اللازمة والحزم الكافي في معالجة الحادث، ويبدو أن القوى الأمنية كانت تتردد وتتريث في اتخاذ التدابير الحاسمة لإخماد أعمال الشغب قبل استفحالها انتظاراً للأوامر من القيادة العليا مما ضيع الوقت وأدّى إلى وقوع مأساة كبيرة. تعتبر مسألة الأقليات مسألة شائكة في كثير من دول العالم، ديموقراطية كانت أم شمولية، غنية أم فقيرة. وليس أمام الصين خيار إلا معالجة المسألة في شكل حذر وسليم لأن البلاد تتكون من 56 قومية! على الحكومة الصينية استخراج الدروس والعبر من هذا الحادث المأسوي لتجنب تكراره في المستقبل، فالصين اليوم تمتلك قدرات سياسية واقتصادية وديبلوماسية كبيرة تمكّنها من إيجاد حلول مناسبة للمسألة، ولكن، يجب أن تقترن كل الحلول بروح التسامح والتفاهم والمساواة والاحترام والمحبة. وبالنسبة إلى الأقليات الصينية، وخصوصاً القومية الويغورية، فيجب أن تطالب بحقوقها الثقافية والاقتصادية المشروعة ضمن الإطار السياسي الحالي، ولن يكون لها أي خير إذا رغب البعض في نيل الاستقلال كما تدعو إليه المنظمات الانفصالية في الخارج، أو لجأ إلى العنف لتحقيق الأهداف كما الحال في حادث شينغيانغ الأخير. * باحث في الأدب العربي والشؤون العربية، أستاذ في «جامعة الدراسات الأجنبية» - بكين