ليس من باب المُصادفة أن يبيع مزاد سوذَبي في نيويورك لوحة «معبد جوبيتر بانيللنيوس» لوليام تيرنر بقيمة 12.9 مليون دولار. لقد سبق أن بيعت لوحة «المنظر الفينيسي» لهذا الفنان البريطاني الكبير بمبلغ 35.9 مليون دولار وهو أعلى سعر تحصل عليه لوحة فنية بريطانية. وسبق للجمهور البريطاني في 2005 أن صوّت للوحة «المُقاتِلة الشرسة» لتيرنر أيضاً بصفتها اللوحة الأعظم في تارخ الشعب البريطاني في استفتاء جماهيري واسع النطاق نظمته «بي بي سي». لوحة المعبد منفذة بالزيت على كانفاس وبقياس 116.8×177.8 سم، وكانت عُرضت للمرة الأولى عام 1816 حينما كان تيرنر في ذروة شهرته كرسام للمناظر الطبيعية، وهي تصوِّر مشهداً يونانياً قديماً لأناس يرقصون رقصة ال «رومايكا»، وهي رقصة وطنية شائعة في اليونان. وفي خلفية اللوحة معبد جوبيتر بانيللنيوس الذي يتوارى خلف كتل الأشجار الثلاث التي تهيمن على فضاء اللوحة التي توحي بانطباعيتها ورمزيتها وتعبيريتها في آنٍ. وعرضت هذه التحفة الفنية في باريس ولندن ولوس أنجليس قبل أن تباع في المزاد المذكور سلفاً. وقد وُصفت اللوحة بأنها «واحدة من أهم اللوحات التي نفذها تيرنر والتي جاءت الى المزاد خلال سنوات. كما أنها واحدة من اللوحات الاستثنائية، ليس لجمالها الرائع وإنما لمقياسها الفني وحالتها الفنتازية لتمثيل التاريخ المتميز». فالمعروف عن تيرنر أنه كان متأثراً بالفنانَين الإيطاليين كلود وريتشارد ويلسون، إضافة الى تأثره بالفنان الهولندي وليام فان در فيلده، غير أن هذا التأثر لا يخرج عن إطار بث الشحنة الوامضة التي كانت تدفع تيرنر لأن يرسم من وحي الإلهام الذي تسببه هذه الرعشة الإبداعية. فقد خلق موضوعه الخاص، وثيمته التي انقطع اليها. ومتابعو تيرنر يعرفون جيداً أن هذه اللوحة هي واحدة من ثلاث لوحات زيتية كرّسها الفنان للحضارة اليونانية القديمة، وأنجزها في وقت كانت أوروبا تتمتع بالتحرر من هيمنة نابوليون. وكان تيرنر يخشى على التحف والآثار الفنية من الدمار الذي تخلفه الماكينة العسكرية وما تنطوي عليه من شرور. وعلى رغم جمال الشكل والتقنيات المستعملة، إلا أن موضوع اللوحة ينطوي على دلالات لا يمكن إغفالها أو غض الطرف عنها. يرى النقاد الفنيون، وعلى رأسهم جون راسكِن، أن تيرنر أغرق هذه اللوحة بعاطفته الجياشة لأنه أراد أن يُحيي فيها البعد التاريخي المقترن بتلك الحقبة، خصوصاً أن الامبراطورية العثمانية كانت تتأهب للهجوم على اليونان واحتلالها، وهذا ما وقع غب انتهاء تيرنر من إنجاز تحفته الفنية وكأن حاسته السادسة كانت تُدرك أن الجمال والروعة الفنية التي تتوافر عليها اليونان كانت بانتظار البرابرة. يتوسط هذه اللوحة نحو عشرين شخصاً من كلا الجنسين يرقصون ويمرحون، وهم في مواجهة شروق الشمس وما لها من دلالة رمزية ومجازية. أما جوبيتر فهو رمز كل اليونانيين، وقد انتصب معبده في جزيرة إيجينا التي لا تبعد سوى خمسة عشر كيلومتراً من أثينا. وجوبيتر هنا هو «جالب الضوء وراعي الحياة المتدفقة»، هذا الضوء الذي أحبه تيرنر، وهو سيسمّى لاحقاً برسام الضوء، وسيصبح الضوء الوامض ميزة من ميزاته الفنية البارزة. أراد تيرنر بهذا العمل الفني أن يحمي الفن اليوناني القديم من الخراب، وأن يدرأ الخطر عن كل أشكال الجمال الطبيعي الذي يهدده الخراب، وتتربص به الغزوات العسكرية. كان وليام تيرنر رسّاماً وملوناً وطبّاعاً. وقد أفضى أسلوبه الى تأسيس المدرسة الانطباعية. وإليه تنسب المنزلة الرفيعة التي اقترن بها رسم المناظر الطبيعية التي ساعدت المتلقين على فهم أسرار الطبيعة والاستماع بها. ولد جوزيف مالورد وليام تيرنر في ميدن لين، كافينت غاردن بلندن في 23 نيسان (أبريل) 1775. كان أبوه غي تيرنر حلاقاً وصانع شعور مُستعارة، أما أمه ماري مارشال فكانت مريضة، ولم تستقر حالتها الذهنية بسبب الوفاة المبكرة لابنتها الشابة هيلين وقد نقلت الى مصح عقلي وفارقت الحياة بعد خمس سنوات. ولعل المشكلات العائلية هي التي دفعت الأسرة الى إرسال تيرنر الى منزل خاله في برينت فورد، وهي مدينة صغيرة تقع على ضفة نهر التايمز غرب لندن. ومن هذا المكان تحديداً تفجر ولع تيرنر برسم المناظر الطبيعية الأخاذة، وذهب الى مدرسة مارغيت التي تقع في الشمال الشرقي لساحل كينت. وفي أثناء هذه المدة أنجز تيرنر عدداً من الرسوم التي عرضها والده في واجهة دكانه الزجاجية. دخل تيرنر الأكاديمية الملكية للفنون عام 1789، كان في الرابعة عشرة، ثم قُبل فيها بعد سنة حينما رأس جوشوا رينولدز، رئيس الأكاديمية الملكية في ذلك الوقت هيئة مستشارين اعترفت بموهبته الفنية. أما أبرز رسومه الزيتية فهي لوحة «صيادون على شاطئ البحر» التي أنجزها عام 1796. ثم توالت معارضه السنوية في الأكاديمية الملكية. كان تيرنر كثير الأسفار، وقد جاب فرنسا وسويسرا واليونان وإيطاليا ورسم الكثير من اللوحات التي خلّدت بعض الأماكن المهمة في البلدان التي زارها. ويكفي أن نشير الى زيارة تيرنر لمدينة أوتلي عام 1797 حينما كان في الثانية والعشرين، إذ جسد في لوحة «هانيبال يعبر الألب» مشهد العاصفة التي ضربت جبال شيفن المطلة على مدينة أوتلي. كان تيرنر محدوداً في علاقاته الاجتماعية، وبعد وفاة والده الذي ترك أثراً سيئاً فيه، أصبح تيرنر غريب الأطوار، بل تعرض لعدد من نوبات الكآبة. غير أن انغماسه في الرسم هو الذي كان ينتشله من دائرة اليأس والقنوط التي غلفت حياته فترة. توفي في 19 كانون الأول (ديسمبر) عام 1851 ودفن في كاتدرائية القديس بولس راقداً الى جوار السير جاشوا رينولدز.