منذ سنوات قادني اهتمامي بالتاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي إلى تتبع أقدم المخطوطات التي كتبت عن القهوة وإلى أقدم الصور الفوتوغرافية التي تصور المقاهي والمترددين عليها سواء من النخبة أو عامة الشعب. ومن ذلك كانت صورة مميزة تعود إلى 1907 التقطها في القاهرة المصور الألماني ب.ديتريتش لجامع التحف الأميركي المعروف تشارلز لانغ فرير (1854-1919) وهو يشرب القهوة برفقة صديقه فريدريك مان واثنين من المصريين أحدهما بالطربوش والثاني بالعمامة، وتعلو من وراء الجميع الإهرامات، ما يمنح الصورة جاذبية خاصة. وقد اخترت هذه الصورة لتكون غلافاً لكتابي الأخير «من التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي» (بيروت 2012)، ولكنني سررت حين وجدتها أخيراً في لوس انجليس على غلاف كتاب عن فرير بعنوان «رحلة جامع تحف: تشارلز لانغ فرير ومصر» ، الذي أعدته آن غونتر وصدر في 2002. صورة الغلاف في هذه المرة لا تخدم القهوة بل تبرز رمزاً مهماً في الخلفية (الإهرامات) للمكان الذي تعلّق به فرير (مصر) بعد رحلاته الطويلة في الشرق التي امتدت إلى الصين واليابان بحثاً عما يشفي شغفه الفني، فالكتاب يتحدث عن علاقة فرير بمصر وقيمة التحف الفنية النادرة التي حملها من مصر وتحفظ الآن في «متحف فرير للفنون» في واشنطن إلى جانب التحف الأخرى من الشرق الأدنى والأوسط والأقصى. ويمكن القول إن الكتاب مفيد جداً للتعرف على شخصية فرير من ناحية وعلى أهم التحف المصرية التي اقتناها في الإسكندريةوالقاهرةونيويورك وباريس ولندن، وهو يستحق لذلك الترجمة إلى العربية. كان فرير المولود في نيويورك 1858 يمكن أن ينتهي به الحال كأي أميركي كوّن ثروة من تنامي الأعمال الجديدة بعد إنهاء الحرب الأهلية، حيث بدأ العمل كاتباً بسيطاً في مخزن تجاري ثم انضم للعمل مع الكولونيل فرانك هيكر الذي تقاعد من الجيش واشتغل في مد سكك الحديد، ثم اشترك معه في 1885 في تأسيس شركة لصنع القاطرات في ديترويت. آثر فرير الاستقالة في 1900 بعد أن كوّن ثروة من عمله ليتفرغ لشغفه الجديد بالفن الآسيوي القديم الذي قاده أخيراً إلى مصر. بدأ الانعطاف الجديد في حياة فرير في 1887 حين تعرف على الفنان الأميركي المعروف المقيم في باريس جيمس وستلر (1834-1903) الذي بدأ باقتناء لوحاته ولوحات الفنانين الأميركيين للقرن التاسع عشر. ومع هذه العلاقة مع وستلر تعرّف فرير أولاً على الفن الياباني الذي أثار فيه الفضول للتعرف على الفن الآسيوي القديم فجال خلال 1894-1895 في الهند والصين واليابان وبدأ في تكوين مجموعته الخاصة من التحف الفنية النادرة من تلك البلدان. قاده ذلك إلى الاهتمام بالفن القديم في بلاد فارس وبلاد الرافدين وبلاد الشام حيث كوّن مجموعة فنية قيمة من تلك البلدان. وعلى الرغم من قيمة التحف التي جمعها حتى ذلك الحين من اليابان والصين وحتى بلاد الشام إلا أن ذلك لم يكن سوى تمهيد للانعطاف الأكبر المتمثل في اكتشافه مصر وبالتحديد المجموعة الفنية القيمة التي جمعها عن مصر منذ الألف الثالثة قبل الميلاد وحتى القرن السادس الميلادي. جاء هذا الانعطاف نحو مصر نتيجة صدى الاكتشافات الأثرية الكبرى في مطلع القرن العشرين، التي أثارت اندهاش العالم ودفعت بالكثير من الأميركيين إلى زيارة مصر والكتابة عنها. وهكذا كما تقول آن غنتر في مقدمتها للكتاب، صدر في الولاياتالمتحدة خلال 1900-1907 خمسون كتاباً عن مصر من أميركيين زاروا مصر آنذاك وكتبوا عن حضارتها التي كانت تحبس الأنفاس باكتشافاتها الجديدة. ومن هنا ليس من المصادفة أن يقوم فرير برحلته الأولى إلى مصر في شتاء 1906-1907 ، حيث انطلق من الإسكندرية بالقطار إلى القاهرة ثم بواسطة النيل إلى أقصى الجنوب (وادي حلفا). شكلت هذه الزيارة الأولى صدمة ثقافية لفرير لأنه اكتشف أن مصر بالذات تحتضن «أعظم فن في العالم» كما كتب من القاهرة إلى صديقه الكولونيل هكر في الولاياتالمتحدة، بل إنه يضيف أن الفن المصري «أعظم من اليوناني والصيني والياباني». ومن هنا بدأ فرير ينساق تحت تأثير هذا الاكتشاف إلى اقتناء التحف الفنية المصرية ليشكل بذلك مجموعته الخاصة التي أصبحت لها قيمتها على مستوى العالم. ولأجل ذلك عاد إلى مصر في رحلة ثانية عام 1908 وفي رحلة ثالثة عام 1909، وجاب محال بيع التحف الفنية النادرة وأصحاب المجموعات الخاصة في القاهرةوالإسكندرية ثم اقتنى التحف من تجار التحف المعروفين في نيويورك ولندن وباريس ليجمع بذلك مجموعته النادرة التي احتوت على حوالى 1500 قطعة فنية تمثل الفن المصري منذ المملكة القديمة (حوالى 2675-2130 قبل الميلاد) وحتى القرن السادس الميلادي حين كانت مصر تحت الحكم البيزنطي. تتضمّن هذه المجموعة تحفاً فنية مصنوعة من الزجاج والمعدن والخشب ومنحوتات من الحجر ولوحات على البردي بالإضافة إلى مخطوطات يونانية وقبطية. ومن ذلك لدينا نسخ من الإنجيل في اليونانية تعود إلى القرن الخامس اشتراها في زيارته الأولى القاهرة، وتعتبر أهم مجموعة موجودة خارج أوروبا. وبفضل الدعم المالي السخي من فرير قام العالم فرانسيس كلسي (1858-1927) ، أستاذ الأدب القديم في جامعة ميتشغن، بنشر المخطوطات اليونانية والقبطية في هذه المجموعة قبل وفاة فرير في 1919. ومع شغفه بالفن وجمعه مجموعة فريدة من التحف الفنية للشرق الممتد من الصين واليابان وحتى بلاد الشام ومصر آثر فرير أن تكون هذه المجموعة متاحة للعموم فأوصى قبل وفاته في 1919 أن تحفظ في متحف خاص ينشأ لها بما خصصه من أموال لذلك، وهو ما تمّ في 1923 حين افتتح «متحف فرير للفنون» في واشنطن. ومع هذا العمل الذي خصّص له معظم ثروته أصبحت هذه التحف الفنية تجذب الدارسين والزوار، حيث كتبت عنها الدراسات، كما نظمت عروض لها بمناسبة الذكرى الستين والذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس المتحف. ولكن المهم في هذا الكتاب «رحلة جامع تحف: تشارلز لانغ فرير ومصر» انه يجمع في مكان واحد شغف فرير ومصر والتعريف بأهم التحف الفنية المصرية في مجموعته التي لا تزال تؤكد أنها تمثل «أعظم فن في العالم». ومن المؤسف أن هكذا كتاباً لم يترجم بعد إلى العربية ليعرف القارئ بهذه الثروة الفنية التي لا يستطيع كل واحد الوصول إليها والتمتع بمشاهدتها في «متحف فرير للفنون».