ينطوي الواقع العربي على مفارقات كبرى، نهضوية واقتصادية وسياسية وتاريخية، كانت دائماً في أساس السؤال النهضوي المربك، القديم المتجدّد: «لماذا تأخَّر العرب وتقدّم الآخرون؟». من هذه المفارقات أن النهضة العربية قد مضى حتى الآن قرابة القرنين على بدئها، وما فتئ العرب يدورون في دوّامة التخلّف، ولا يبدو أن ثمة ما ينبئ بما يفضي الى مسار عربي جديد أو أفق حضاري مختلف. ومما يزيد من وطأة التساؤل والإرباك أن سوانا ممن تأخروا عنا في انفتاحهم على الحداثة، وصلوا وحققوا نهضتهم المنشودة. فقد تمكن الأوروبيون، بعد قرون من الحروب الدينية والأهلية والقومية المدمرة، من أن يشيّدوا صرح الحضارة الأوروبية العظيم، وكان أكثر ما تمثل ذلك في القضاء على الأمية، إذ حققت إنكلترا القرن السابع عشر، وفرنسا القرن الثامن عشر، وروسيا القرن التاسع عشر، محو أمية نصف السكان. واستطاع بضعة آلاف من الطلبة أوفدتهم الولاياتالمتحدة الى أوروبا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، من إطلاق نهضتها الجبارة التي تمثلت في التصاعد المذهل في عدد الاختراعات الذي بلغ بحلول عام 1920 حوالى 40 ألف اختراع. وحتى نهاية القرن التاسع عشر كان اليابانيون على هامش الحضارة الإنسانية، إلا أن مئات الطلبة الذين أوفدتهم الى أوروبا إذ ذاك، استطاعوا أن يحولوا اليابان في مسار تطوري الى دولة منتجة للعلم والتكنولوجيا، حتى غدا اقتصادها منذ الربع الأخير من القرن الماضي، ثاني اقتصاد عالمي على رغم ضآلة مساحتها ومواردها وسكانها. في الوقت نفسه عجز آلاف الخبراء الأجانب الذين بدأوا يتوافدون الى العالم العربي قبل النهضتين الأميركية واليابانية بنحو نصف قرن عن تحقيق أي تحوّل نوعي في واقع النهضة العربية. ولم يتمكن قرابة 40 ألف باحث عربي عام 1980 من إحداث أية انجازات ذات شأن على الصعيد العلمي. ومع ان التعليم الجامعي العربي في اطراد مستمر، حيث ارتفع عدد الجامعات العربية من 23 جامعة مطلع الستينات من القرن الماضي الى 240 جامعة حالياً تضم أربعة ملايين طالب و140 ألف أستاذ، إضافة الى طلبة الدراسات العليا في الخارج الذين قدِّروا عام 1996 بأكثر من 179 ألف طالب. ومع أنه تُنفق على التعليم العالي مبالغ باهظة، قدرت عام 2000 بنحو ستة مليارات دولار، يظل مردود الإنتاج العلمي العربي ضئيلاً بحيث لا يتجاوز مجتمعاً 40 في المئة من الإنتاج العلمي في إسرائيل التي بلغت براءات الاختراع الممنوحة لكل مليون نسمة فيها 48 براءة، بينما لم تتجاوز هذه النسبة الواحد في المئة في مصر أعرق الدول العربية نهضوياً، في مقابل 857 براءة في اليابان و244 في الولاياتالمتحدة و158 في المانيا، وفق تقرير التنمية البشرية لعام 2008. ومن المفارقات الكبرى كذلك أن يكون في العالم العربي مئة مليون فقير وأمي، وأن تبلغ مستوردات العرب الغذائية عام 2004، 27436 مليون دولار، وأن يكون واحد من رغيفي الخبز الذي يتناوله الفرد العربي مستورداً من حيث مكوناته، وأن تقع غالبية الأقطار العربية في المستويات الدنيا من الناتج للفرد في العالم، وأن يبقى الدخل الإجمالي العربي دون دخل دولة أوروبية متوسطة الحجم كإسبانيا، على رغم كل ما يملكه العالم العربي من مميزات جغرافية وطاقات وموارد اقتصادية – أكثر من 67 مليون هكتار من الأراضي الزراعية، 59.3 في المئة من احتياطي النفط العالمي، 30.5 في المئة من احتياطي الغاز. ومن المفارقات كذلك أن العرب انفتحوا على القيم السياسية الحداثية منذ ما قبل النصف الأول من القرن التاسع عشر، فتكلَّم رفاعة الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق وبطرس البستاني وفرنسيس المراش وفرح أنطون وأديب اسحق وجمال الدين الأفغاني وشبلي الشميل وقاسم أمين وغيرهم، عن المواطنية والمساواة الاجتماعية والنظام الدستوري والبرلماني والدولة المدنية العلمانية وحقوق المرأة. ومع ذلك بقيت الأنظمة الاستبدادية هي المسيطرة، والمجتمع المدني مغيّباً، وحقوق الإنسان والمرأة منتهكة. وعادت العصبويات ما قبل الوطنية وما قبل المدنية الى الانبعاث من جديد وتهديد الاندماج الوطني والقومي العربي. أساس هذه المفارقات كلها، في رأينا، أن العرب لم يدركوا سر النهضة الحديثة التي تسنَّم الغرب زمام قيادتها، وما ذلك السر سوى العمل المتواصل والدؤوب الذي يصل الى حد التفاني والعشق والتضحية بالذات، الأمر الذي ظلّ في الغالب غريباً عن الذهنية العربية، إذ لم يقم العرب علاقة مع «العمل» كتلك التي أقامها الغربيون منذ بدايات نهضتهم، وكان ذلك السبب الرئيس في التراكم الرأسمالي والمعرفي الذي تحقق لديهم، ودفعهم الى مقدمة الحضارة الإنسانية، على رغم الحروب والكوارث التي أحاقت بتاريخهم. فالتقاليد الغربية، بما فيها اليابانية، قدّست العمل، بشهادة الرحالة العرب الأوائل الى الغرب منذ مطلع القرن التاسع عشر. فهذا رفاعة الطهطاوي الذي عاش في باريس بين عامي 1836 و1931 يقول في الغربيين: «من أوصافهم انهم لا يكلّون من الأشغال، سواء الغني والفقير، فكأن لسان حالهم يقول: «ان الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما». وهذا فرنسيس المراش الذي عاش في باريس بين عامي 1866 و1868 يقول فيهم: «فما للكلل هناك موقع ولا للملل موضع. وما للأفكار تثاؤب على الأفواه أو نوم في أعماق الرؤوس، فهنالك الجميع يتسابقون في ميادين التقدم والفلاح، الجميع يجرون الى الأمام، الجميع يشتغلون، عالمين أن الشغل ثروة، وأن التهاون يلد تأخراً، والكسل قهقرة، والبطالة فقراً وفاقة». وفي ما رواه اليابانيون عما كابدوه من جهود سهر ومثابرة ومعاناة في أثناء دراستهم في المانيا ما يضيء على أسس الانطلاقة الجبارة للنهضة اليابانية. يقول أحد هؤلاء: «قضيت في الدراسات والتدريبات ثماني سنوات كنت أعمل خلالها ما بين عشر وخمس عشرة ساعة في اليوم، وخلال الليل كنت أراجع قواعد كل صناعة على الطبيعة». في المقابل، ورثت المجتمعات العربية نظرة غير إيجابية الى العمل، سواء العمل المهني والصناعي والفكري، بتأثير القيم الرعوية التي لها، كما يقول محمد جابر الأنصاري، تأثير كبير تاريخياً في التكوين العربي. من هنا ضآلة الطبقة العاملة العربية التي لا تتعدى في مجملها ثلث العرب، فضلاً عن هامشية دور المرأة العربية الاقتصادي وإسهامها في العمل، الأضأل في العالم، ومن هنا كذلك ضآلة الإسهام العربي أو انعدامه في إنتاج العلوم والتقنيات الحديثة، كما في الثقافة والفكر والفلسفة. لقد اكتنه الغربيون سر العمل، فكان من ثمار ذلك صرح الحضارة الحديثة العظيم، وكل ما تنعم به الإنسانية اليوم، من تقدم ورفاه وحرية، تفانوا في البحث في مكنونات الطبيعة فاجترحوا ما يشبه المعجزات، وسخّروها لخدمة الإنسان وسعادته. ناضلوا من أجل مجتمع إنساني يسوده العدل والوئام، فاستنّوا العقد الاجتماعي والدولة المدنية وحقوق الإنسان، أما نحن فآثرنا السكينة وبقينا عالة على غيرنا في ما جنوه وأبدعوه بأعمالهم. ولأننا لم نكتشف سر العلم لم نشارك في صناعة التاريخ وظللنا على هامشه، على رغم كل ما أوتينا من قدرات. ننادي بقيم العصر ولا نعمل لها فتبقى شعارات جوفاء، ونتكلم على الدولة المدنية وحقوق الإنسان ولا نجاهد من أجلها فتبقى روح الاستبداد سائدة في مجتمعاتنا. أما آن أن نفهم أن سر تردينا قابع فينا، وأن نكفَّ بعد ذلك عن تحميل الآخرين تبعة تقاعسنا وتخلفنا، ونبادر الى ما هو أصل النهضة ومبتداها: العلم. * كاتب لبناني.