بين تحذير وزير الدفاع الأميركي ليون بانيتا من مخاطر تنامي «القاعدة» في منطقة الساحل جنوب الصحراء، وزيارة وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون بلداناً في غرب وشرق جنوب القارة الإفريقية خيط رابط، أقربه الاتجاه نحو دمج القارة السمراء في منظومة الإستراتيجية الأميركية غير المنفصلة عن المشروع القديم الجديد للشرق الأوسط وشمال إفريقيا. الخرائط هي ذاتها تتمدد في كل اتجاه. وكما في الإمكان استيعاب دول الجوار العربي في المشرق، في أفق تصور بعيد المدى يتجاوز الحدود الجغرافية للعالم العربي، يظل وارداً عدم تجزئة بلدان المغرب العربي عن امتداداتها الإفريقية عند خطوط التماس ودول الساحل. ما يفيد بأن التحذيرات التي أطلقها الوزير بانيتا من تونس وجدت صداها في الأجندة الأميركية بمحاذاة نهر السنغال، حيث الزوايا الصوفية التي تغوص في عمق الصحراء من داكار إلى الخرطوم. غير أن التحذيرات الأميركية تختلف في نبرتها وأهدافها عن صياح الرمق الأخير لأنظمة عربية منهارة، تصورت يوماً أن التلويح بزحف جحافل «القاعدة» والتطرف يمكن أن ينقذها من مصير محتوم. وإذا كانت الأضواء الأميركية ما زالت مسلطة على المارد الإرهابي الذي لا يختفي إلا ليظهر في مكان آخر، فإن الانخراط في الحرب عليه قولاً وفعلاً ليس مبرراً لاستمرار نزعة الاستبداد واحتكار السلطة والثروة. وقد أدرك الأميركيون والبلدان الأوروبية أن التحالف الحقيقي يبدأ باعتناق قيم الحرية والديموقراطية، وليس إشهار السلاح فقط في مواجهة عدو افتراضي حان إدراك أن التسيب في ممارسة السلطة يشكل مرتعه الخصب بامتياز. لا يعني ذلك البتة أن الإرهاب عابر القارات لا ينمو إلا في ظل الاستبداد، فهو مثل أي ظاهرة غريبة تتوالد من رحم إقصاء الآخر ورفض الحوار والتعايش واللجوء إلى استخدام العنف واستباحة الأرواح والحرمات. والراجح أن ما اصطلح عليه الربيع العربي لم يلغ هذه الحرب. قد يكون جعلها تتوارى قليلا إلى الخلف وسط الانشغالات الكبرى بمعاودة تأهيل النظام العربي لما بعد التقاط الأنفاس. لكنها ما زالت مفروضة بقوة الواقع. الراجح أن الأميركيين يرغبون في إسقاط أي مبررات ذات خلفيات أمنية أمام الأنظمة التي حشرت في الزاوية. فقد فعلوا ذلك في اليمن من خلال شن هجمات على تنظيم «القاعدة» من دون أن يتمسكوا بقيادة الرئيس السابق علي صالح. ودعوا إلى تكثيف جهود العواصم المغاربية بعد أن تخلصت من زين العابدين بن علي ومعمر القذافي. كما استمروا في إدانة الهجمات الإرهابية في العراق بعد رحيل جزء كبير من قواتهم العسكرية. فيما اهتماماتهم بالوضع المنفلت في فضاء الساحل جنوب الصحراء في تزايد وإن تراجع بريق قوات «أفريكوم». وإذ يعاود الأميركيون على مشارف الرئاسيات القادمة ترسيم حدود ومجالات الحرب التي لم تتوقف، فإن تركيزهم على القارة الإفريقية ينحو في اتجاه يكاد يستحضر بعض ملامح الحرب الباردة. ومع الإقرار بالفارق الكبير بين حرب الأمس واليوم وغداً، فإن ثمة مؤشرات تدعو إلى التأمل. ليس أبعدها أن الأزمة السورية عاودت فتح شهية الروس والصينيين على حد سواء بهدف التموضع في مراكز نفوذ تقليدية وأخرى بصدد الاتكاء على عصا الفيتو التي يهش بها الحالمون باستقطابات قديمة. ما يفيد بأن الهاجس الاستراتيجي للولايات المتحدة حتم إخراج سيناريوات عدة من رفوف الحرب الاستباقية التي تراهن على ما هو من رقعة الأزمة السورية. والأكيد أن الانزعاج الأميركي ليس مصدره الاعتراض الحاصل في مجلس الأمن فحسب، وإنما الاحتراز من أن يتحول الأمر إلى ما يشبه لعبة الدومينو في الحرب الباردة. موقف موسكو وبكين من الأزمة السورية ليس عارضاً. ولم يمنح الرئيس بشار الأسد صكاً على بياض من أجل خبرته في طب العيون، وإن لم تسعفه في أن يرى ما يراه كل الناس بالعين المجردة، ولكنه جزء من إرهاصات تحولات يتملكها الحنين إلى الماضي، وهذا ما يؤرق الأميركيين تحديداً، فيما تشي الأزمات الاقتصادية والمالية في بلدان عدة في الاتحاد الأوربي بتداعيات، لا بد أن يكون لها انعكاس على أحلام أوروبا الشرقية. الأميركيون لا يصنعون مظلات واقية لأن أمطار القنابل تهطل في حلب ودمشق وحمص وكافة أرجاء الشام. ولكنهم يذهبون إلى حيث تتفاعل كيمياء الهطل اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً في مناطق أخرى. وكما ذهبوا مرة إلى خليج الخنازير لاختبار ردة فعل السوفيات، فإنهم يجربون الوصفة الإفريقية نكاية بالمارد الصيني الذي يقض مضاجعهم. لا بأس من التلويح مجدداً بمخاطر الإرهاب وضرورات الديموقرطية والأمن والاستقرار في القارة الإفريقية. فثمة من ينصت إلى وقع الأقدام الثقيلة على بعد آلاف الأميال. والذين يتجنبون الحديث عن حرب باردة من نوع جديد لا شك أنهم يخوضونها من دون إشعار. وكم سيكون صعباً على المعنيين بالمواجهة أن يشكّكوا في قابلية العالم لاستيعاب أن تكريس الديموقراطية واستمرار الحرب على الإرهاب لا يمكن إلا أن يحشدا الدعم والمساندة. بسمارك هو من قال إن الجغرافيا وحدها تبقى ثابتة. وفي التحركات الأميركية الراهنة نوع يمثل هذه القاعدة التي يجري تسويقها مرة أخرى بهاجس الحرب على «قاعدة» أخرى.