في نص لافت تكتب الشاعرة الفلسطينية رنا زيد: «أيها الغيم المشتهى كلَ شتاء/ها أنذا أقترب/لأضمَك لا تخف/قبلني كورقة خريف ماضية». رنا زيد في مجموعتها الشعرية الأولى «ملاك متردّد» (منشورات الدار العربية للعلوم ناشرون – بيروت – 2012 ) تأتي محتشدة برغبة عارمة في التكثيف. القصيدة عندها تسعى لبنائية تتأسَس على الرَسم، والشاعرة تأتي إلى مجموعتها الشعرية الأولى وهي تحمل تجربة حيوية في التجريب الشعري كما في الكتابة النقدية في الأدب والفن عامة وفي الشعر على وجه الخصوص. لعلَ هذه المسألة بالذات تجعل قصائد رنا زيد «الأولى» تتجاوز كثيراً هذه الصفة وتدفعنا للتعامل معها باعتبارها تجربة تحسب لها وعليها بكل المعايير النقدية. «ملاك متردّد» لافتة عريضة لقصائد «تعبث» في المساحة الشائكة بين البراءة بمعناها العام، وبين قلق عارم لا يخفي نفسه بين سطور وجمل الشعر، بل هو يتجوَل هنا وهناك، فيمنح القصائد ويمنحنا معها متعة قراءة قلق جميل: «طائر أبيض غادر قلبي/أهو حرّيتي/أم شهوتي». انها أسئلة تبدو في بساطتها وفي ما يشبه عبثها كمن لا يبتغي جواباً قدر ابتغائه نثر قلق الشعر في تعبيره عن قلق الحياة ذاتها. رنا زيد تكتب من روح أنثوية تجعل الحب والرَغبة أقنوماً هاماً وإن يكن ليس وحيداً، بل لنقل أنه يأتي لنا باعتباره الحياة ذاتها وقد صارت بتلاوينها جميعاً أشبه بنزف واحد، عاصف ومثقل بالحزن. ثمة هنا مقاربة شفيفة لإيروتيك» يتجاوز رغم مباشرته مألوف هذا اللون من الشعر ليذهب من «هناك» بالذات نحو صعود في اتجاه الحياة كلّها، الحياة التي يشير إليها الجسد، وتشير إليها الشهوة ولكن في حضور مختلف: «كلُ إغوائك لهنَ/لي/كلُ ما لهنَ منك/ملكي/سترى في الشفاه لعابي المتمرد/يسيل عليك/سأرى في نهود اللواتي/نهديَ يتمشيان/إلى أن تفقد لحظتك/فقدر ما استطعت كن خائناً/ وانحت من أجسادهنَ جسدي». رنا زيد في «ملاك متردد» إبنة تجربة قصيدة النثر العربية عموماً، وهي بهذا المعنى إذ تستفيد من هذه التجربة تنجح في تحقيق افتراق بيّن عن مناخات الشعر الفلسطيني «الشائعة» وتقترب كثيراً من خصوصية تمنحها حرّية التجول في هموم الروح ومشاغلها وعلى نحو يدفعنا أن نراها خارج أي «سرب». أشير لذلك وفي الذهن ذلك النزوع الواضح عند رنا للتشكيل: يبدو ما نقوله هنا واضحاً في رغبتها في الرسم وفي «تكوين» مشاهد شعرية يمكن للقارئ إستعادتها وبناء تفاصيلها. «اللعبة» الشعرية هنا تنشغل إلى حد كبير أيضاً بما يمكن أن نسمّيه درامية القصيدة حيث تتجاوز المشاهد سكونيتها وتجتهد أن تمنح تلك المشاهد حركيتها وجدليتها مع الواقع والمعنى على السواء. تلفت هنا اللغة المباشرة، بمعنى البساطة والابتعاد عن اللغة المركَبة، فالشاعرة تقدم لنا دخولاً «واضحاً» لأجواء ومناخات قصائدها، وهي تفعل ذلك بانتقائية تختار من البسيط كلَ ما هو متوتر ومشحون بالمعنى والصورة. ثمة رغبة لا تخفي أن تأتي القصائد على شبه كبير بروح الشاعرة الداخلية، وبالذات رغبتها في التعبير الحر عن أنوثة ترى نفسها في مرآة محيطها، في هموم الحب والجسد، تماماً كما في اغترابات الفرد وصعوبات العيش، وكلُها عناوين لشعر يبدو عاصفاً في جموحه وحيويته: «أنا يا الله ورقة صفراء/وأنت خمسة فصول/وقطة جائعة/تداعب بمخالبها قلقي». قصائد رنا زيد في مجموعتها الشعرية الأولى «ملاك متردّد» عزف منفرد على شاعرية عذبة تمتحن الشعر في عصف الحزن الفردي والقلق الجميل.