رومانيا التي خرجت من قبضة الديكتاتورية ملطخة بالدم على خلاف اخواتها الشيوعيات في اوروبا الشرقية اللاتي استخدمن سلاح الموائد المستديرة لتفكيك النظام بوتائر زمنية متدرجة في الفعل والتغيير ، تصطدم مخيلات سكانها هذه الايام بطيف الديكتاتور تشاوتشيسكو الذي يتبدى لهم بهيئة رئيس حكومتهم الحالية فيكتور بونتا الذي اطلق على سياسته مصطلح « البونتية» على نسق «البوتينية» لجهة قبضه على كل مفاصل السلطات في البلاد التي تحتل احد المقاعد ال27 في الاتحاد الاوروبي منذ العام 2007. في رومانيا «شذوذ سياسي» وأخلاقي للنخب السياسية مقابل اندهاش اجتماعي متصاعد من وقاحة هذه النخبة التي ادخلت البلاد في سلسلة لا بداية لها ولا نهاية من الفضائح التي اثارت قلق باراك اوباما وحركت مخاوف بيروقراطيي بروكسيل من وصول الاشتباك بين الوزير الاول المعتد بنفسه وبصلاحياته بونتا وبين رئيس الجمهورية الضابط السابق في الاسطول التجاري البحري تريان باسيسكو وترجيح وصوله الى حد الاشتباك بالايدي على خشبة مسرح البرلمان الذي قرر مستجيباً لضغوط بونتا اقالة خصمه اللدود من منصبه بتهمة انتهاك الدستور عبر منح نفسه صلاحيات مناطة بالحكومة ودعم اجراءات ادت الى «افقار الشعب». الا ان قرار عزل باسيسكو سيبقى مجرد أجراء تنقصه الشرعية الدستورية وغير قابل للتطبيق الى حين اجراء الاستفتاء العام عليه اليوم في 29 تموز (يوليو) حيث يقرر الشعب ما اذا كان سيقبله ام يرفضه. وهذه هي المرة الثانية التي يجد فيها الضابط البحري سابقاً الذي حاول استغلال منافذ وثقوب قانونية في الدستور لاكتساب نفوذ اكبر في الحكم، والتحول الى مركز قرار متجاوزاً دوره المراسيمي وذلك رغبة منه في تمرير سياسات يصفها داعموه ب «الاصلاحية» واضعاً نفسه وجهاً لوجه امام تحدي محاولات خصومه لازاحته من الكرسي. ماضٍ لا تمحوه الندامة باسيسكو البالغ من العمر 60 سنة ومنذ فوزه بالمنصب الرئاسي الاول العام 2004 ظل يكرر الحديث عن ضرورة المضي قدماً وبوتائر اسرع في تطبيق الاصلاحات وتحديث المجتمع ومحاربة الفساد المستشري في اوساط النخب السياسة ومؤسسات الدولة، لانتشال البلاد من الموروث الشيوعي الذي جعلها تغرق في التخلف الاقتصادي وبؤس الخدمات الاجتماعية، وهو في هذا لم يتوان عن شن معارك قاسية مع الاحزاب ولم يتردد في تعرية روابطها الخفية مع المافيا. ويعيب معارضو باسيسكو عليه ماضيه السياسي وعضويته في الحزب الشيوعي الذي حكم رومانيا واذاق شعبها الامرين لأكثر من اربعة عقود من الزمن على رغم انه كان وقف امام البرلمان في العام 2006 معلناً في خطاب رسمي ادانته للجرائم «التي ارتكبها الحزب الشيوعي ضد الوطن والشعب» وواصل كلامه متجاهلاً الصفير والعبارات الجارحة والساخرة التي خرجت من افواه نواب المعارضة وهو يلقي كلمته. وكانت الخلافات نشبت بين باسيسكو وبونتا بعد استلام الحكومة الجديدة مهامها وإعلان رئيسها بونتا عدم أحقية الاول بتمثيل البلاد في قمم الاتحاد الاوروبي، بقوله «ليس من الطبيعي ان يشارك الرئيس في الاجتماعات السياسية على المستويات الاوروبية العليا» وتوجه الاثنان بعد ايام من النقاشات الساخنة والاتهامات المتبادلة الى المحكمة الدستورية التي اتخذت قراراً لصالح رئيس الجمهورية، الا ان بونتا تجاهل هذا الحكم ولم يعترف بشرعية قرار قضاة قال ان باسيسكو عينهم شخصياً، وغادر الى بروكسيل للمشاركة في القمة الاوروبية. هذا الفعل لم يمر مرور الكرام في المفوضية الاوروبية التي كانت تراقب عن كثب وبقلق كبير الصدام السياسي والمؤسساتي في بوخارست وبلوغه حد خرق وانتهاك القواعد والاصول الديموقراطية الاوروبية، وكتبت مفوضة الشؤون العدلية فيفيان ردينغ على حسابها في «تويتر» قائلة «أشعر بقلق جدي من الهجمات التي تتعرض لها المحكمة الدستورية في رومانيا»، فيما وصف السفير الاميركي في بوخارست مارك غيتينشتاين قيام الحكومة بتبديل طاقم المحكمة الدستورية بأنه «يوم اسود في تاريخ رومانيا» وحذر من «ان الاعتداءات المتكررة على المؤسسات الدستورية سوف لن يثير قلق الولاياتالمتحدة فقط، وانما الاسواق المالية ايضاً». ودخلت المانيا على خط الانتقادات العنيفة للحكومة الرومانية، بشن رئيس لجنة الشؤون الاوروبية في البوندستاغ غيونتر كريخباوم اقسى انتقاد للحكومة بقوله «عندما أراقب ما تفعله هذه الحكومة سرعان ما يقفز الى ذهني ديموقراطية بوتين الموجهة، ولكن يوجد فارق واحد هو ان روسيا ليست عضواً في الاتحاد الاوروبي». ديموقراطية موجهة وانقلاب استبدادي في معركته مع باسيسكو ذهب بونتا الى حد استخدام طرق واساليب مكشوفة للنيل من خصمه، ما دفع المعارضة النيابية الى استخدام تعبير «الانقلاب» لوصف الحدث الذي وصفته جريدة «ادفرول» بأنه «انتهاك للقوانين»، وقالت جريدة «رومانيا ليبرا» انه «عمل طابعه شمولي واستبدادي». ورصدت مجموعة (كريتيك اتاك) في قرارات حكومة بونتا ما وصفته بأنه «تجاوزات وانتهاكات خطيرة للدستور عبر تفسير وتأويل بنوده بالشكل الذي يخدم مصالحها السياسية والحزبية» مشيرة الى «اتخاذها واصدارها 23 مرسوماً عاجلاً في غضون شهرين». طبول المفوضية الاوروبية دقت محذرة من اخطار تهدد الديموقراطية في رومانيا، وقالت في بيان «ان آخر ما تحتاج اليه رومانيا هو حكومة جديدة بعد مضي اشهر معدودة على ثالث حكومة تتشكل في البلاد منذ اوائل العام الجاري اي في فترة 6 اشهر فقط، بكل ما يحمله مثل هذا الزلزال السياسي الجديد من تداعيات اقتصادية مرعبة على خلفية الازمة الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة اصلاً في البلاد وفي منطقة اليورو ككل. لقد ضربت حكومة فيكتور بونتا وحزبه الاتحاد الاشتراكي الديموقراطي رقماً قياسياً في سرعة اتخاذ واصدار القرارات، ومن بينها تعديل احد القوانين بأضافة بنود من شأنها تسهيل عزل الرئيس وطرده من قصر «كوتروتشيني»، واكد محللون رومانيون «ان عزل الرئيس اصبح متاحاً بعد هذا التعديل في حال صوت 50 زائداً 1 في المئة من النواب الحاضرين في الجلسة وليس كل النواب كما كان سارياً حتى الآن». ان تغيير قواعد اللعبة البرلمانية خلال فترة المباراة، هي برأي المحللة السياسية آن ماري بلاجان «فعل مجرد من المبادئ الديمقراطية»، وأضافت «كان واضحاً منذ اصبح بونتا رئيساً للوزراء في أيار (مايو) الماضي أن من المستحيل حصول تعايش وتفاهم بينه وبين باسيسكو». المعركة التي يخوضها بونتا مع غريمه باسيسكو بغض النظر عن نتيجتها تمثل انتحاراً سياسياً لحزبه الاشتراكي وربما حتى لمستقبله السياسي شخصياً وقد تقوض آمال قيادة الحزب في تحقيق فوز ساحق في الانتخابات العامة المرتقب ان تجري في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. تقول بلاجان: «بونتا وحزبه يعرفان ان محاولتهما ازاحة باسيسكو قبل الانتخابات ستساعده في لعب دور الضحية ما سيوفر له اعمدة قوية من الاسناد المجتمعي، ولكنه رضخ لضغوط التيار الليبيرالي في حليفه في التحالف الحكومي الاتحاد الليبرالي الاجتماعي (USL) وبالتحديد زعيمه كرين انتونيسكو للذهاب في اجراءات (الابيجمنت)، اي عزل الرئيس من دون اي تردد، وساعد على تسريع وتيرة الحركة في هذا المسار مجموعة من الفضائح المدوية خلال الاسابيع المنصرمة مع قيام الرئيس باسيسكو بخطوة عدائية تجاه بونتا حينما اعترف بأنه حرض مجلة «الطبيعة العلمية» على اجراء التحقيق الاستقصائي الذي كشف عن ان نصف اطروحة الدكتواره لرئيس الحكومة مسروقة من وثائق لم يشر اليها في فهرست المصادر العلمية». رباطة جأش الرئيس بونتا الذي استحق بعد الفضيحة عن جدارة لقب «Copy-Paste» لم يتجرع الاهانة وارتفع منسوب الحقد والكراهية لباسيسكو. وباسيسكو في المقابل صارع مشاعره واحتفظ برباطة جأش ساعدته على التعامل بهدوء وعقلانية مع الحدث على رغم جسامة التحدي الذي يواجهه من النخبة السياسية متعففاً عن الدخول في مساجلات مع خصومه ومنافسيه، فرضوخ لبنود الدستور بنقل صلاحياته ومهامه الى رئيس مجلس الشيوخ «كرين انطونيسكو» الذي سيمارسها بشكل موقت الى حين اجراء الاستفتاء الشعبي واعلان نتائجه اواخر تموز الجاري، وسارع الى نشر رسالة على حسابه في (تويتر) قال فيها «انا مع الحقيقة والدستور، هيا بنا الى الاستفتاء». * كاتب وصحافي عراقي مقيم في صوفيا