لم يكن رد فعل الجزائريين نحو الداعية السعودية الشيخ عائض القرني مدهشاً للسعوديين وحدهم، الذين لم يعرفوا عن الجزائر كثيراً، ولكنه أيضاً أذهل القرني الذي غادر بلاده و«يده على قلبه»، خوفاً من مفاجآت العنف والإرهاب. الذي عرف الداعية الجبلي كما يقول عن نفسه شؤمه وسوءه في الرياض، وفي سجون حاور فيها أعتى مشايخ التكفير الذين كان الإفتاء ب«قتل المسلم والمعاهد» بالنسبة إليهم أسهل من شرب «كوب قهوة» في أحد مقاهي العاصمة الفارهة. ودهشة القرني من حمل الجزائريين له على الأكف، دفعته إلى محاولة الإجابة عن سر لهفتهم عليه، فقال إنهم ينعتونه والشيخ سلمان العودة وكوكبة من علماء السعودية ب«دعاة الوسطية». وهو النهج الذي يعبر عنه القرني بمذهب «اللملمة»، والذي يفسره بالقول: «توصلت إلى قناعة بأن الخطاب الذي يجمع الأمة كلها بفرقها ومذاهبها هو خطاب الكتاب والسنة، وذكر محاسن كل قوم في ديارهم وعلى منابرهم ومن ثم الإسرار إليهم بالملاحظات في ما بينك وبينهم، وقد جربت هذا النهج في أوروبا على مدى ثمانية أشهر مع جماعات متناحرة مثل السلفية والتبليغ والإخوان والصوفية، فوجدت منها الاستجابة والترحيب». ويرفض القرني الذي يمازح قراءه في كتابه «عاشق» بأن أول عمل ديني قام به كان الصلاة على جنازة «عنز» في قرية عشيرته جنوب السعودية، أن يكون ما سماه مذهب «اللملمة» التصالحي، مداهنة في الحق، وقال: «بل هو تغليب جانب الرحمة واليسر، والتبشير الذي دعا إليه النبي عليه الصلاة والسلام». هذا الخطاب كان نقطة الجذب التي قال القرني إنها لمست شغاف قلوب الجزائريين، إلى جانب عزفه على وتر أمجادهم في الثورة والجهاد ومواجهة المستعمر. في ما يأتي حوار عن زيارته للجزائر: هل لك علاقة بالجزائر سبقت زيارتك لها؟ - قبل أن أذهب كنت أمنّي نفسي بزيارة الجزائر، لأن هناك جزائريين صاحبتهم ودرست معهم، فلما جاءتني الدعوة بزيارتها، تخوفت من الاستجابة لما اشتهر به تاريخ الجزائر الحديث من عنف واقتتال، ولكن لما طمأنونا وقالوا إن الأمن أصبح سائداً والظروف عادية، استجبت لدعوة مؤسسة «عنابة»، التي تتبع رئيس الجمهورية، وتم استقبالنا بشكل رسمي من جانب الدولة وأمنها، على أن نشاط المؤسسة متعدد، في التوعية الدينية، والتأهيل العام، وإصلاح المجتمع. وكيف توصلوا إليك؟ - بعثوا الدعوة إلى مكتبي، ونحن بدورنا قمنا بالاتصال بهم، ووثقنا بالجهة التي تشرف على المؤسسة. وماذا قالوا لك عن هدف الزيارة، أم أنها زيارة هكذا في الله؟! - هم برروا دعوتهم بقولهم: «إنك محبوب عندنا، ولدينا مصالحة وطنية، ونرجو أن تزورنا لدعم هذا التوجه بين الشباب المتدين الذي يتابع دروسك ويقرأ كتبك». كما أنهم ذكروا أن عندهم شهراً للحديث عن الرسول، ويرغبون في أن أشاركهم في ذكر شمائله وأخلاقه. على هذا أفهم أنك ذهبت لتحيي المولد، ولكن على طريقتك السلفية؟ - (ضاحكاً) أنت تعرف رأينا نحن معشر طلبة العلم في السعودية، في أننا لا نرى إقامة المولد، لكن الفعاليات التي تمت، تقاطعت فيها مصالحنا مع المحتفلين، فأنا أخطب فيهم بما أراه مناسباً للمقام، ولم أتعرض للمولد من قريب ولا من بعيد. قبل أن ندخل في أجواء الزيارة، قل لنا بصراحة، ماذا كان انطباعك عن الجزائر ومواطنيه قبل زيارتك هذه؟ - بصراحة، لدي تصور بأن الجزائريين أناس فيهم حدة وعجلة، وأنه شعب مناضل وبطولي، ولم أدر أن لبلادهم أي نصيب في الجمال، فلما جئتها وجدتها «جنة الله في الأرض»، إضافة إلى ذلك تصوري عن الصراع والشقاق الدامي بين الجماعات الإسلامية، وهذا تصور آخر وجدته مخالفاً للواقع. إذاً كانت الصورة قبل الزيارة في الجملة قاتمة؟ - نعم تقريباً، ولذلك كررت أنا وزملائي (الدكتور يحيى الهنيدي، والدكتور عبدالرحمن القحطاني، والدكتور محسن الزهراني ) أذكار الحفظ كثيراً قبل رحلتنا وأثناءها، لأننا كنا متخوفين، ولما هبطنا ووجدنا رجال الأمن والموكب الرسمي، تعزز الخوف لدينا، ولكنه تبخّر بعدما لقيناه من حسن استقبال وحفاوة من الشعب الجزائري الكريم. وبأي شيء كانت البداية؟ - المفترض أن نتجه مباشرة إلى مدينة «عنابة»، كونها التي جاءت منها الدعوة، ولكن الإخوة في العاصمة لما علموا بوصولنا قبل الجمعة إلى العاصمة، طلبوا مني أن أخطب الجمعة، فقلت لهم على الرحب والسعة، وكنت متوقعاً موقفاً كهذا، ولذلك جهزت أفكار خطبة للجمعة ونحن في الطيارة. الغريب الذي أسعدني ولم أكن أتوقعه أن الناس تناقلوا الخبر في ما بينهم سريعاً، فتوافدوا نحو المسجد الذي ما كانت خطبتي فيه مدرجة في البرنامج، فوجدت الشوارع «مكتظة». وكبروا في خطبة الجمعة، بعد أن تجاوبوا مع حماستي، حتى خشيت أن تفسد جمعتهم، فطلبتهم أن ينصتوا! وأنت كيف استطعت أن تخرج الجماهير عن إنصاتها؟ - أنت تعرف أنني شخص حماسي، وأعرف من أين آتي الجماهير، فألهبت حماستهم بذكر أمجادهم في النضال والشهادة، ودحر المستعمر الفرنسي، وانتزاع الاستقلال. ولكل مقام مقال، فأنا خاطبت الجزائريين في المساجد والجامعات والمجالس الخاصة وملاعب كرة القدم. ألم يواجهوا صعوبة في فهم حديثك، فلهجتهم يقال إنها من أبعد اللهجات عن الفصحى؟ - فوجئت بأن الجزائريين من أفصح الناس، ومن أكثرهم معرفة بالعربية، ودخلت الجامعات والمجالس، فوجدتهم حريصين جداً على اللسان العربي، حتى إنني تعجبت من فصاحة أحد أطفالهم، فقال لي أبوه: «متابعة قناة طيور الجنة أكسبته الفصاحة». وصلت «عنابة»... ماذا وجدت فيها؟ - وجدت فيها استقبالاً من العلماء والوجهاء، حتى إنهم أحسن الله إليهم علقوا صوري في الشوارع إمعاناً في الترحيب. حتى قلت لنفسي: «لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رويع الغنم». وكنت أسأل الله الإخلاص، لأننا بشر ولسنا أنبياء معصومين، وحظوظ النفس خطرة إذا لم يحذر منها المرء. وكيف استقبلك الناس العاديون؟ - رأيت فيهم من التواضع والمحبة والرقة ما أخجلني، فلا أخرج من محاضرة إلا والناس صفوف بين أيديهم كتابي «لا تحزن» يطلبونني توقيعه، وربما جاءني الرجل يبلغني سلام أهل بيته، أو يأتي بهم يرغب في أن يلتقطوا صورة معي. رأيت فيهم من دماثة الخلق ما الله به عليم. ولذلك تبت إلى الله من نقل أي تصور عن ناس قبل أن آتي أرضهم، وصارحتهم بأنني اكتشفت أن من جاءهم بالطيب كانوا معه أطيب، ومن أتاهم بالقسوة كانوا له بالمرصاد، وأن من قال إن العربيات أجمل من البربريات عليه أن يستغفر (ضاحكاً). بدا واضحاً من حديثك أن برنامجك كان دعوياً واجتماعياً عاماً، ولكن ما أبرز المواقف التي حدثت معك؟ - المواقف كثيرة، منها ما هو محرج ومضحك، وما هو عادي. بين المواقف أنني كنت في محاضرة والناس متزاحمون جداً، إذ سمعت دوياً فاهتز قلبي من الفجيعة، وخشيت أن يكون دوي تفجير، فإذا به صوت باب أحدث صوتاً كبيراً من قوة دفعه. من المواقف كذلك أنني لما أتيت الملعب الرياضي، ووقفت على المسرح وشاهدت عشرات الآلاف من الناس، ألقيت عليهم التحية، فزغردت النساء وصفر الشباب فخجلت. ومنها أننا في ولاية «قالمة»، رأينا حقول قمح بهية، سلبت ألبابنا من جمالها، فقال لنا أهلها، إن البابا يأكل من برّها، فتعجبت. وماذا بعد من المواقف الحماسية؟ - في مدينة قسطنطين، أتينا جامعة الأمير عبدالقادر الجزائري لإلقاء محاضرة فيها، فإذا بالجموع في انتظارنا، لكن الأمر الذي لم يكن في الحسبان أن المسؤولين الجزائريين أوعزوا بإنشاد السلام الوطني الجزائري احتفاء بزيارتنا في خرق نادر للبرتوكول، وكان بعض طلبة العلم ناقشني في الوقوف للسلام والعلم، لكنني لم أعره اهتماماً. وما أبرز القضايا التي تشغل الجزائريين؟ - هاجس الخوف من الفرنكفونية، والبطالة، والهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، إضافة إلى المصالحة الوطنية التي كان حديثي طوال بقائي في الجزائر منصباً حولها، فأنا عندما جالست العلماء صارحوني بأن عبدالعزيز بوتفليقة أحسن إلى الجزائر كثيراً بالمصالحة التي يحشد الدعم لها، وأنا بنفسي وجدت الأمن في البلاد، مستتباً أثناء الانتقال بين الولايات، وكان ذلك من ثمار المصالحة التي تبناها. والمصالحة مبنية على ماذا؟ - مبنية على نسيان الماضي، وإعلان «عفا الله عما سلف»، وعدم الاقتصاص والبحث عمن فعل، يقولون ننسى الماضي ونبدأ حياة جديدة. وكان قام باستفتاء شعبي، و80 في المئة من الشعب أيدوا هذا النهج في المصالحة، وحقق المشروع نجاحاً كبيراً، واستجاب الشعب للمصالحة بنسبة 95 في المئة في تقديري، وأعداد كثيرة ممن كانوا في الجبل نزلوا، وعادوا إلى منازلهم! وماذا عن الذين قتلوا وسفكوا الدماء؟ - حتى هؤلاء تشملهم المصالحة، ولكن هناك من يرى وجوب محاكمتهم. ماذا طلب منك التائبون وأنت الآن أصبحت مقرباً من سلطات بلادهم؟ هم بصراحة حملوني رسالة إلى حكومتهم، وأنا قد بلغتها للمسؤولين، وهي أنهم يطالبون بالكف عن تهميشهم فهم نزلوا من الجبال ولم يحصلوا على وظائف فصار بعضهم عبئاً على أسرته، ولم يتمّ تأهيلهم. قالوا إنهم يريدون حياة كريمة وتأهيلاً ووظائف، ويريدون أن يكونوا أعضاء صالحين في المجتمع. وأنا نصيحتي لعموم العالم الإسلامي أن يحسنوا إلى هذه الشريحة بتأليف قلوبهم، وأن يحتضنوهم. ولماذا المجتمع لا يتقبلهم؟ - بعض الجهات ترى أنهم قتلة وأنهم استئصاليون، يجب أن يحاكموا ويقتص منهم، وهذا جزء من المجتمع. أما الغالبية فإنها عفت وصفحت، بما في ذلك من قتل لهم أقرباء. وهؤلاء (حملة السلاح السابقين) يشتكون من جلوسهم في منازلهم بلا وظائف ولا دراسة ولا أي نشاط. في النهاية ألا ترى أن الرئيس الجزائري استخدمك سياسياً؟ - قيل لي هناك، ربما كان الرئيس بوتفليقة وظف زيارتك لتصب في مصلحة برنامجه الانتخابي، لكني أجبتهم بأني لا علاقة لي بالسياسة الجزائرية ولست مع أي مرشح، على رغم أني أعلنت صراحة تأييدي «المصالحة» التي يقودها الرئيس الحالي، إحقاقاً للحق، ولمساً لتأييد الجزائريين لها.