لم تغيّر ثورة 25 يناير كثيراً في التركيبة السياسية للنخبة المصرية، التي لا تزال محشورة بين إسلاميين متنوعين من أقصى اليمين (سلفيين وجهاديين سابقين) إلى أقصى اليسار («إخوان مسلمين» وإسلاميين مستقلين وصوفيين). وفي الوقت الذي استفاد فيه الإسلاميون من الثورة بأشكال متنوعة، سواء من خلال تعميق وجودهم الاجتماعي والتنظيمي أو عبر التمدد في الفضاء العام، لا يزال الليبراليون على حالهم من الانقسام والتشظي والاستنزاف في معارك جانبية، ناهيك عن سقطاتهم الأخلاقية التي ساهمت فى تآكل ما تبقى من رصيد لليبرالية المصرية. وكانت الضربة القاضية بالنسبة الى الليبراليين، أو هكذا يعتقدون، فوز الدكتور محمد مرسي «الإخواني» برئاسة الجمهورية، ما يعني تكريس هيمنة الإسلاميين شكلاً وموضوعاً على قمة الهرم السياسي في مصر وقاعدته. رد فعل الليبراليين على تقدم الإسلاميين في مصر، يؤكد أن مشاكلهم هيكلية وعميقة وليست فقط تكتيكية أو موقتة، فناهيك عن المحاولات اليائسة لإحداث توازن «خطابي» مع الإسلاميين، فقد سقط كثير من رموز الليبرالية وشيوخها في أخطاء ساذجة ولكنها قاتلة لهم ولأفكارهم، فقد انحازوا جميعاً -صراحة أو ضمناً- للاستبداد، وحاولوا الاستنجاد ببقايا النظام القديم في معركتهم ضد الإسلاميين، وذلك سواء من خلال الهيمنة على «السوق» الإعلامية أو من خلال اللجوء والاحتماء بالمجلس العسكري ومحاولة تأليبه و «تسخينه» ضد الرئيس المنتخب، وهو أمر ليس بجديد على كثير من الليبراليين، الذين دأبوا منذ بداية الثورة على اللجوء والاصطفاف مع العسكر نكاية بالإسلاميين ومحاولة لوقف تقدمهم السياسي والانتخابي، في حين لم يخجل بعضهم من مطالبة العسكر بالبقاء في السلطة، خوفاً من انقضاض الإسلاميين عليها. دعك من السقوط الأخلاقي والفكري المهين لليبراليين بالتنكر لمبادئ الديموقراطية وقبول الآخر، بيد أن الكارثة هي في «الغباء» السياسي الذي وضعهم فى خانة واحدة مع الاستبداد والسلطوية، والذي قضى على ما تبقى من مشروعية أخلاقية وفلسفية للفكرة الليبرالية في الفضاء العام المصري. وكانت النتيجة أنه كلما تقدم الإسلاميون سياسياً وشعبياً، كلما انتكس الليبراليون أخلاقياً وأيديولوجياً وشعبياً. من جهة ثانية، سعت مجموعة من الأحزاب والتيارات التي تسمي نفسها «مدنية»، إلى تشكيل ما أطلقت عليه «التيار الثالث»، من أجل التصدي للإسلاميين. وهي محاولة يائسة وفاشلة منذ بدايتها، ليس فقط بسبب الخليط و «النشاز» الأيديولوجي الذي يهيمن على المنتمين إليها من بقايا اليسار والنيوليبرالية التي لا تحترم قواعد اللعبة الديموقراطية، وإنما أيضا بسبب ضعف حجتها السياسية. وناهيك عن فوضى الكلمات وابتذال المصطلحات (تيار ثالث، تيار مدني... إلخ)، فإن ثمة مؤشرات على إخفاق هذا التيار في تحقيق أي تأثير في المستقبل القريب. فأولاً، لا يوجد ناظم أيديولوجي أو فكري أو مشروع سياسي واحد يجمع هؤلاء «الليبراليين»، فما يوحدهم فقط هو كراهيتهم للإسلاميين، أو بالأحرى لحكمهم وأيديولوجيتهم وأفكارهم. ثانياً، يضم هذا التيار وجوهاً كثيرة ثبت خلال الشهور الماضية مدى انتهازيتها وتقلب مواقفها السياسية وانعدام نزاهتها القيمية والأخلاقية وتراجع شعبيتها بشكل كبير. ثالثاً، لا يوجد أي مؤشر على تحول هذا التيار إلى حركة شعبية ذات هياكل تنظيمية وجذور اجتماعية، فبدلاً من أن يتحرك هؤلاء للحصول على دعم شعبي حقيقي لتيارهم الوليد، اكتفوا بالخطب الرنانة في الفنادق الفارهة التي لا يدخلها كثير من المصريين، وهو استمرار لمنطق التعالي وتضخيم الذات الليبرالية نفسه. وللمرة الثالثة في غضون أسابيع قليلة، يكرر الليبراليون الخطأ نفسه وبالقدر نفسه من السذاجة والاستخفاف، فبعد أن دعموا، سراً وجهراً، الفريق أحمد شفيق، مرشح النظام القديم في الانتخابات الرئاسية الماضية، ولم يخجل بعضهم من اعتبار شفيق «حامي الدولة المدنية» في مصر، عادوا كي يدعموا الانقلاب الدستوري الذي قام به المجلس العسكري عندما قام بحل أول برلمان منتخب بعد الثورة بحجة عدم دستورية قانون الانتخاب، كما صمتوا «صمت الحملان» على الإعلان الدستوري الذي أصدره العسكر وكرّس بقاءهم في السلطة ومنحهم سلطة التشريع، في حين آثر بعض الليبراليين البرلمانيين الصمت على جريمة العسكر بحل البرلمان نكاية بالإسلاميين ليس أكثر. وكان الخطأ الرابع والأحدث لليبراليين، وقوفهم ضد القرار الأخير لرئيس الجمهورية بعودة البرلمان المنتخب للانعقاد، وكان موقفهم هذا نسخة عن قرار المجلس العسكري الذي سبقت الإشارة إليه، فى حين وصل الأمر ببعضهم إلى دعوة الجيش (وليس فقط المجلس العسكري) صراحة للانقلاب على الرئيس المنتخب، بحجة حنثه باليمين وحمايةً للدولة المدنية. وقد فات هؤلاء أن الجيش والمجلس العسكري يعملان تحت إمرة الرئيس الجديد على الأقل من الناحية الشكلية. بعض هؤلاء لا يزال يعيش في «جلباب» العسكر ويعتقد أن السلطة لا تزال بيد المجلس العسكري. صحيح أن ثمة علاقة شائكة بين الرئيس الجديد والمؤسسة العسكرية، لكن هذه الأخيرة لن تقف في وجه الرئيس حباً بالليبراليين أو إيماناً بأفكارهم ومشروعهم السياسي. لذا فقد أصيب الليبراليون بالصدمة من رد فعل المجلس العسكري على قرار الرئيس بعودة البرلمان، والذي لم يكن بالحزم والحدة التي كانوا يتوقعونها. وكانت الصدمة حين انعقد البرلمان مجدداً وفتح أبوابه لنوابه بعد قرار الرئيس. وللحق، فإن شيوخ الليبرالية ورموزها في مصر باتوا عبئاً عليها وخصماً من رصيدها، وساهموا في تشويهها لدى العامة والخاصة، ناهيك عن التحالف الصارخ بين مدّعي الليبرالية وبعض رجال الأعمال ذوي التوجهات الرأسمالية الفجّة، والتي لا تكترث كثيراً بقضايا العدل الاجتماعي والمساواة بين المصريين طبقياً واقتصادياً. في المقابل، فإن ثمة حضوراً لا تخطئه العين لتيار ليبرالي شبابي يؤمن بالتعددية والاختلاف والرغبة في مد الجسور مع التيارات الأخرى ولكنه لا يزال في مرحلة «جنينية» أولى وسوف يحتاج إلى مزيد من الوقت كي يضرب بجذوره في الوعي المصري ويعيد بناء ما فشل فيه شيوخ الليبرالية. هذا التيار يمثل جزءاً من جيل سياسي جديد بدأ يظهر في الحياة السياسية المصرية بعد الثورة ويسعى إلى غربلة كثير من الأفكار والتيارات والأطروحات وإعادة هيكلته بشكل يتناسب مع أحلامهم وتطلعاتهم لبلد جديد يقوم على الحرية والعدالة والكرامة. * كاتب وأكاديمي مصري، جامعة دورهام - بريطانيا. [email protected]