منذ صباح هذا الأحد المشؤوم الذي جاء بعد ال «تسونامي» الذي ضرب مانيلا وبدد كل أحلامها، لم تستطع «إنجا» أن تصطاد أي زبون يسدد مصروف يومها على الأقل، أو يدفع بعض مصاريف عائلتها المعلقة برقبتها. الساعة العاشرة مساءً، يسارع رواد روبنسون مول إلى الخروج من المركز بعد أن أُغلقت كل المحال داخلَه على غير عادتها، ولم يعد إلا بعض المطاعم خارجَه تنتظر زبائنها الأخيرين للإغلاق، فالطقس لا يساعد على الاستمرار في السهر وإن كانت ليالي مانيلا لا تنتهي حتى بعد الفجر لتواصل الحياة في اليوم التالي. حاولَتْ أن تغازل الكثير من المارة، إلا أن أحداً لم يستجب لها، رغم كل ما تتمتع به من طول وبياض بشرة ووجه مبتسم، ولم يساعدها حظُّها العاثر على اصطياد الزبون الأخير، وحتى صديقتها كرين، التي اصطادت زبوناً صينياً أشبه ببوذا منه بالإنسان، لم تعد إليها. أفرغت إنجا كيس نقودها بعد أن دفعت ثمن فطور الصباح، وتناولت شريحة من الخبز والجبن وقت الظهيرة، وكانت تنتظر أن تصطاد زبوناً. ثمة سائح عربي يجلس على كرسي في مقدمة بريتون كافيه الفرنسية، شاغَلَتْه، تحركت أمامه... إلا أنه لم يعرها اهتماماً، حاولت أن تداعب تيارات ماء النافورة الأرضية عند بوابة روبنسون الجديدة، لكنه لم يلتفت إليها أيضاً، أشّرت له وابتسمت، فأدار وجهه إلى الجهة الأخرى، ليجدها قد احتلت الكرسي المقابل من دون استئذان، وابتسمت. - اسمي إنجا، ويسمونني آني، أمي فيليبينية وأبي من مانديلاو. ابتسم السائح بثقل، فهي لم تحرك حواسه، أو ربما هي ليست بالجمال الذي يثيره، أو الشكل الذي يحبّه، أو لا تخزِّن شيئاً من لحوم بيضاء تثير غريزة السيّاح، خصوصاً في مثل تلك الليلة المظلمة التي جاءت بعد ال «تسونامي» الذي دمر في أربعة أيام متتالية حياة إنجا وآمالها، بعد أن قضت على كل مخزونها من البيسوات (النقود). الليل يخفي كثيراً من عيوب بنات الهوى، عملاً بالمثل القائل «كل القطط في العتمة رمادية»، وكانت تحاول من خلال عينيها استكمال بقايا جسدها شبه العاري، علّه يتراجع عن قراره ويوافق على مصاحبتها في تلك الليلة القاسية. لم يكن السائح يرغب في التحدث إليها. ثمة بقايا سيّاح ينتشرون على كراسي مطعم أريا الإيراني وستاربوكس كافيه ومقهى أينا ليانيز وكافيه تراس... الحياة تتقلص عند بوابة روبنسون مول. «فراديس» أغلق أبوابه مع الزبون الأخير، أما المطاعم والمقاهي الأخرى، فبدأت تودِّع آخر زبائنها استعداداً لإغلاق أبوابها. الطقس ازداد قسوة مع استمرار هطول أمطار غزيرة وعاصفة هوجاء في وداع «تسونامي» مانيلا المدمر. عجزت إنجا عن إقناع آخر الزبائن عند بوابه روبنسون، أما كرين، فلم تعد منذ أن تبعت الزبون الصيني ذا الكرش الكبير مثل بوذا. الأضواء تخبو ببطء، مع استمرار إيقاع الشارع، الذي يُعرف بضجيجه منذ الصباح وحتى الفجر من كل يوم. قالت حسناً... ساعدني بوجبة طعام... وأجرة تاكسي. ابتسم السائح ساخراً من عرضها اللامعقول بأن يدفع من دون مقابل، رغم استعدادها لقبول السعر الذي يعرضه في مقابل كل ما يريد. جاء النادل وطردها، حفاظاً على سمعة المحل وعدم إزعاج الزبائن. ظلت إنجا «مصلوبةً» أمام بوابة روبنسون في انتظار الزبون الأخير، الذي لم يأت تلك الليلة. مانيلا 26/6/2011