على الرغم من أن الذي صاغ كلمة «الرأسمالية»، هو كارل ماركس فلا يجد أي اقتصادي مهني - في يومنا هذا- غضاضة في إطلاق كلمة الرأسمالية على أي نظام اقتصادي يخضع نشاطه لأنظمة حرية الأسواق. والمقصود بيانه أن نظام حرية الأسواق لن يكون على نفس المستوى من كفاءة الأداء إذا لم يُسمحْ لكل من يخاطر ويخطئ الهدف أو من يعجز عن المنافسة من منتجي السلع ومن مقدمي الخدمات بتحمل خسائره بمفرده. والعكس صحيح، فإن النظام الذي لا يسمح لمن يتفوق فيربح، أياً كانت صفة الربح مادياً أو اجتماعياً أو غيره، لن يكون نظاماً يتصف بكفاءة اقتصادية تفيد الجميع. وقد بين الاقتصادي النمساوي – الأميركي جوزيف شومبيتر في أوائل القرن الماضي أهمية الخسائر التي يسببها التقدم التقني، فيزول منتجون وَيُسَرِّح من كان معهم يعملون، ويبرز منتجون جدد يوظفون آخرين. وهذه هي وسيلة تحديث آليات التوزيع والإنتاج، وهي مصدر قدرة الأنظمة الرأسمالية على التكيف وحشد رأس المال. غير أن ما حدث خلال وبعد الكارثة المالية في عام 2008 التي لا يزال العالم وبخاصة دول اتحاد عملة اليورو يئن من أذاها، يخالف قوانين الرأسمالية، ويخالف ما ينبغي أن يكون عليه الحال تحت مظلة حرية الأسواق. فمن طبيعة الأنظمة الرأسمالية أن الذين يتخذون المبادرة ويخاطرون بمدخراتهم ويراهنون على قدراتهم بالإتيان بسلعة أو خدمة جديدة مطلوبة هم أسباب نمو كل اقتصاد رأسمالي سواء خسروا أو ربحوا. فإن منوا بالخسارة، تعلم غيرهم من تجربتهم، فيحل محلهم من هو أكفأ منهم. وإن ربحوا قلدهم آخرون فأضافوا جميعاً إلى ثروات بلدانهم الوطنية. والذي حدث في عام 2008 أن الذين غامروا بأموال غيرهم وبأدوات مالية معقدة اخترعوها، لم يغامروا بأموالهم الخاصة ومدخراتهم وإنما غامروا بأموال المودعين وبرؤوس أموال منشآتهم المالية. واستمروا لمدة سنوات قبل عام 2008 يخاطرون بأموال غيرهم فإن ربحت المغامرة ظفروا بمكافآت ضخمة. وإن فشلت فلا يخسرون من أموالهم الخاصة شيئاً. والخاسرون هو حملة أسهم منشآتهم بما في ذلك مؤسسات استثمار معاشات المتقاعدين من محدودي الدخل، والاقتصاد الوطني العام بصفة عامة. وحين انفجرت فقاعة بالون مغامرات لصوص نيويورك وعجز المغامرون المقترضون عن الوفاء لم تسمح لهم الأنظمة السياسية بمواجهة مصيرهم هم دون غيرهم فيفقدون وظائفهم وتعلن المؤسسات التي كانوا يديرونها إفلاسها. فلماذا؟ بالدرجة الأولى لإن إفلاس كل هذه المنشآت العملاقة يعني في ما يعني فقد الثقة بالنظام المالي بأكمله، كما يعني جفاف كل وسائل منابع الاقتراض. ومنابع الاقتراض وقنواته المتدفقة هي وقود الأنظمة الرأسمالية الحديثة، إذ إن أهمية وجود قنوات الائتمان تتجاوز قطاع توليد النقود من النقود (كالمتاجرة بمشتقات الأسهم والسندات)، إلى كل قطاعات الاستثمار في كل قطاعات الإنتاج الأخرى من زراعة وصناعة ونقل وتجارة وغيرها. بإيجاز وجدت السلطات الحكومية، في أميركا وفي دول أخرى كثيرة، انه لا بد لها من التدخل ولو كارهة لمنع حدوث كساد بسبب جفاف قنوات الائتمان. ولكن ما تم توفيره من سيولة، لمنع إفلاس مؤسسات مالية عملاقة يؤدي إفلاسها بكل تأكيد إلى انهيار كامل لأسواق المال أولاً ثم انهيار الاقتصاد المنتج كافة، كان أيضاً على حساب عامة الناس لما أحدثه توفير السيولة من تراكم للديون العامة والتي أدى تراكمها بدوره إلى معضلات اقتصادية أخرى. بما فيها فقد الملايين لمصدر رزقهم أو على الأقل فقد مساكنهم التي زين لهم اللصوص شراءها من دون التأكد من قدرتهم على الوفاء بما حملوهم إياه من قروض رديئة الجودة بكل المقاييس المالية المعتادة. والذي اتضح في الوقت الحاضر، وهو من قبيل الإتيان بالحكمة بعد الحدث، أن منع أنظمة حرية الأسواق من إكمال مسيرتها المعتادة بحيث تجد كل المنشآت المالية الضخمة التي غامر القائمون عليها بأموال المودعين وبرؤوس أموالها نفسها مضطرة إلى إعلان إفلاسها، هو الحل الأفضل. وهو ما يحدث عادة في ماضي الرأسمالية الذي امتد لمدة تجاوزت ثلاثة قرون، من تدمير لكل تقنية تتقادم وخدمة رديئة ليحل محلها ما هو أكفأ منها. وهو ما اسماه شومبيتر ب «التقنية المدمرة». فمن قوانين الرأسمالية التي تنظم حرية الأسواق هو ترك من يغامر ويخسر الرهان أو يتقادم ولا يساير تطور وسائل إنتاج سلعة أو تقديم خدمة ليواجه مصيره بمفرده. فحرية الأسواق تساعد في تكوين ثروات ضخمة أحياناً، كما تؤدي إلى الخسائر والإفلاس في أوقات أخرى. ولكن لماذا لم يتبع تلك الكارثة المالية التي بلا جدال شوهت دور الأسواق الحرة، سن إصلاح جذري يضع جداراً نارياً بين مصارف الإيداع وبنوك الاستثمار، ويمنع حتى بنوك الاستثمار من المتاجرة بالأدوات المالية ومشتقاتها لحسابها الخاص، وإنما لحساب عملائها الذين وثقوا بقدراتها على توليد النقد من النقد فيتحمل العملاء الواثقون نتائج ثقتهم؟ الجواب بإيجاز هو تأثير مجموعات التأثير أو «اللوبيات» التي اشترت ولاء أصحاب القرار من السياسيين بالمال أو القدرة في المساعدة على التنظيم وجمع الأموال في الانتخابات. إن «اللوبيات» أو مؤسسات تسويق التأثير هي أهم أسباب تشويه الديموقراطية الأميركية بخاصة، واللوبيات المالية تحديداً، وبطريقة غير مباشرة من أهم أدوات هدم أنظمة المنافسة العادلة. أي أنهم (فرسان اللوبيات) شوهوا الجزء الأهم من أنظمة حرية الأسواق. * أكاديمي سعودي