"من وين إنت؟" سؤال من أسئلة التعارف المفضلة لدى اللبنانيين (أو غالبيتهم، على الأقل). من دونه لا تكتمل فرحة التعارف بين مواطن وآخر. يمكن القول إن "من وين إنت؟" سؤال بسيط بساطةَ إلقاء التحية على الطريقة اللبنانية. بعضهم يسبقه ب"مرحبا" سريعة أو "بونجور" (أجنبية تعني صباح الخير) أو "هايْ (لفظية قصيرة)، حرصاً على اللياقات الاجتماعية، أو "الأتيكيت"، التي ورثها اللبنانيون عن "أمهم" فرنسا. وبعضهم الآخر يعجّل في إلقاء هذا السؤال "الميتافيزيقي" حتى قبل التحية توفيراً للوقت والطاقة؛ وتبعاً للجواب، يقرر السائل المضي قدماً في عملية التعارف أو التراجع فوراً عن علاقة كادت أن تبدأ. ولمن لا يعرف من غير اللبنانيين، فالسؤال "من وين إنت؟" لا يجب أن يُترجم حرفياً، ولا يُقصد به استفسار جغرافي حول إحداثيات السكن أو العمل، ولا دراسة لحركة نزوح وهجرة، إنما هو طريقة لبنانية متحذلقة للاستفسار ضمنياً عن الطائفة أو المذهب. إذا صودف أنك مواطن لبناني وتحمل اسماً يشير إلى ديانة معيّنة، فأنت من المحظوظين حقاً، لأنه سيجنّبك الاضطرار إلى الإجابة يومياً على ذلك السؤال الملحّ، وييسّر للآخرين التعامل معك، سلباً أم إيجاباً. ملاحظة: اسم علم من هذا النوع الواضح، لا يريحك نهائياً من أن تُسأل "من وين إنت؟"، لأنه لا يشير بصراحة إلى "المذهب" (وهذه مسألة إضافية متفاقمة حالياً). أما إذا صودف أن أهلك، ولسبب من الأسباب، قرروا تسميتك باسم لا يمت للأديان بصلة، ويحيّر سامعه، عندئذٍ، سيثير الكثير من اللغط والإرباك أينما ذهبت. وستتسبب بالكثير من الإزعاج ل"الطائفيين" في كل مكان. وسينظر إليك على أنك شخص مثير للشبهات. وعلى رغم أنني ولدت في لبنان وأعيش فيه، لم أعتد حتى الآن على هذا السؤال. ولم يساعدني عنادي، بعد، على تقبله برحابة الصدر الذي يجب أن يتمتع فيها كل لبناني صالح و"وطني". وقد أكون أنا التي تعاني بطءً في الاستيعاب، ولكنني لم أتوصل بعد لاكتشاف السبب وراء إلحاح سائق السرفيس (سيارة الإجرة)، مثلاً، على أن يعرف "من أين أنا"، أو مصفف الشعر، أو بائع الأحذية... وكل الأشخاص الذين لا تجمعني بهم أي علاقة شخصية؟ وفي كل مرة، أرفض فيها الجواب على "هذا" السؤال، أو أتهرب منه، أعامُل ك"فارّ" من العدالة. والسؤال بحد ذاته ملغوم (ملغّم)، ف"من وين إنت؟" لا يقصد به الاستفسار عن مكان سكنك او حتى مكان ولادتك. فعلى سبيل المثال، عندما أجيب: "أنا ساكنة في بيروت"، لا يقتنع السائل بجوابي. وإذا أجبت: "ولدت في منطقة كذا"، أيضاً لا يكون الجواب شافياً. ولكنْ! لكي ترضي السائل، يبدو أن عليك أن ترسم له شجرة العائلة وحركة نزوحها والمناطق اللبنانية التي مرت بها منذ الجد الأول. وهنا أيضاً لا يكمن حل مشكلت(هم) معي، فإذا استعرضتُ شجرة عائلتي وانتشارها الجغرافي، ترى حالي كحال معظم اللبنانيين، فأنا وأبي وأمي وجدي وجدتي كلنا ولدنا وعشنا في مناطق مختلفة. وبالتالي، يتحول ذلك السؤال الغبي، إلى سؤال وجودي: فإلى أين ينتمي الإنسان؟ إلى المنطقة التي ولد فيها أم تلك التي ولد فيها أبوه أو جده، أم المنطقة الذي يعيش فيها؟ في فرنسا السؤال خصوصي أغلبية اللبنانيين وجدواً حلا بسيطا لهذه المعضلة، فالإنسان لا ينتمي فعلاً إلى أي مكان، بل ينتمي إلى طائفته. الطائفة هي الوطن و لبنان خارج المعادلة. ولدهشتي، أثناء إقامتي في فرنسا، أنا العربية الغريبة، لم يطرح عليّ أحد سؤال "من أين أنت؟"، باستثناء الأصدقاء الذين أصبحوا مقربين أو أثناء الإجراءات الإدارية. وتبينت أن هذا السؤال على عكس ما تربينا عليه في لبنان ليس عاماً بل هو شخصي جداً (وخصوصي جداً). ويتطلب طرحه مقداراً من الحميمية في العلاقة مع الآخر. وإذا لم تتوفر هذه الشروط يُنظر إليه على أنه سؤال عنصري. ويصبح من حق الشخص إما التقدّم بشكوى وإما الامتناع عن الرد مع موقف سلبي من السائل. واضح أن جل ما ورثناه عن "الأتيكيت" الفرنسية هو "بونجور" (صباح الخير) والمزايدة على هذه التحية ب"بونجورين" (اثنين). والمضحك أن تلاحظ أن اللبنانيين يطرحون "السؤال - القضية" بعضهم على بعض أكثر مما يطرحونه على الأجانب أو الأغراب. فمنهم من يعتقد مسبقا، على سبيل المثال، أن كل شخص يتحدث الإنكليزية هو أميركي، و لا داعٍ لسؤاله عن أصله أو فصله، بينما يُعتبر من الضروري أن يسأل كل مواطن لبناني نظيره الآخر، في بلد متناهي الصغر، "من أين أتى". وكأننا نحن أغراب بعضنا عن بعض. وكأن كل طائفة هي "أجنبية" (أو "غريبة") بالنسبة إلى الطائفة الأخرى، على رغم أن اللبنانيين يتساكنون المناطق ذاتها، ويتشاركون في الملامح والقسمات، وينطقون اللغة ذاتها... ولو بلهجات مختلفة، ويمارسون العادات السيئة ذاتها، وههم يشبهون بعضهم بعضاً إلى حد مزعج حتى في طائفيتهم وأسئلتهم المزعجة. وتالياً، يكون سؤال "من وين إنت؟" نتاج الفكر اللبناني الطائفي العام، الذي اتحدت كل الطوائف على صياغته، وأجمعت عليه كميثاق أو عرف، الهدف منه المحافظة على الطائفية، حتى في المخاطبة اليومية، وحتى في تبادل التحية... كي لا ننساها (أي الطائفية) اوتنسانا. أو يحصل ما ليس في البال ويتضح أنها غير موجودة فعلا إلا في ذهننا المريض. ___________ * نصوص مشابهة: عن الرجل الواقف على شرفة منزله مراقباً الأطفال - حازم الأمين