تختلف أدوات المتظاهرين وطرق تظاهرهم باختلاف الزمان والمكان. فللأوروبيين أدواتهم الاحتجاجية من بيض فاسد وبندورة وحرق أعلام ورسوم كاريكاتور وأشخاص يرتدون الأبيض كالأشباح ورسوم على الوجوه والملابس، فيما قد يتميز غربيون آخرون بالغرافيتي الذي بدأ يتسلل بدوره إلى ثقافة التعبير العربية، وخصوصاً في البلدان التي شهدت ثورات، ومنها مصر. وللعرب أيضاً أدواتهم الاحتجاجية التي لا تخلو من فن، وأصبحت أكثر تحرراً من السابق، وولّفت أشكالاً قد يراها البعض مبتكرة وعفوية وآتية من صلب الحياة اليومية البسيطة للناس، فيما يعتبرها البعض الآخر فجّة ومباشرة. ولعل «أيقونة» الأدوات تلك تتمثّل في الحذاء، منذ انضم حذاء العراقي منتصر الزيدي، الذي «طار» في اتجاه الرئيس الأميركي السابق جورج بوش خلال مؤتمر صحافي، إلى أدوات الاحتجاج «التقليدية». بل صار الحذاء جزءاً من «ثقافة العصر» ورمزاً للرفض والاحتجاج لدى المتظاهرين العرب، و «استعاره» منهم غربيون. هو الحذاء، باعتباره «موقفاً» صريحاً لا لبس فيه، ولأنه أيضاً بين أيدي الجميع، أو بالأحرى في أقدام الجميع. ضرورة ومُلكية و «شتيمة» متاحة، مهما اختلف في الشكل أو اللون أو النوع. كأن الاختلافات بين الأحذية، كمكوّنات حيوية وأساسية في يوميات الأفراد، تعبّر أيضاً عن الاختلافات الطبقية والاجتماعية والثقافية، بل والعلمية والفكرية بين أبناء الشعب الواحد. الشعب الذي يجتمع هنا ليقول: «أنا أحتج ويجب أن تعرف ذلك وتعترف به». ومن ينسى الأحذية التي ارتفعت في «ميدان التحرير» رداً على أحد خطابات الرئيس المخلوع حسني مبارك قبل أن يقرّ بالثورة ويتنحى؟ والحذاء الذي ضرب به شاب من حلب مراسل التلفزيون السوري الرسمي صائحاً «الإعلام السوري كاذب» قبل أن يطلق ساقيه للريح (وكل هذا على الهواء مباشرة)؟ ثم «الشبشب» الذي رماه شخص في الشارع على أحد المرشحين للانتخابات الرئاسية المصرية، وصوّرته الهواتف النقالة يسقط على رأس الرجل؟ دَوس الظلم وأخيراً، في مشهد مفعم بالسخرية و «الابتكار» والغضب، نظّم عدد من شباب الثورة في الإسكندرية تظاهرة مسائية فريدة، احتجاجاً على الحكم الصادر في حق مبارك ووزير داخليته حبيب العادلي (إذ اعتبروه مخففاً)، إضافة إلى الحكم ببراءة رجالات من النظام السابق. لم يكتفِ المتظاهرون برفع الأحذية، إنما رسموا وجوه شخصيات النظام السابق على النعال، وذلك في رمزية تقضي بأنه، عندما يعود كلّ إلى منزله، بعد التظاهرة، يدوس، في كل خطوة، «وجه الظلم ورقاب الفساد والاستبداد»، بحسب تعبير أحدهم، «علّ ذلك يخفف الغيظ قليلاً، وينفّس طاقة الغضب المحتقنة في الصدور». مئات الأحذية السوداء والرياضية. مختلف الأشكال والألوان والخامات. مختلف البيئات والمستويات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وكلٌّ ممثّل في نوعية حذائه وفخور بذلك، والكل يتجاذب أطراف حوار صامت، صارخ، ملون وساخر، تشابكت فيه الأيديولوجيات والرؤى، ما عكس «سجالاً» مغايراً، نأى عن التشنج بين التيارات الفكرية والسياسية المختلفة، واجتمع أصحابه على الغضب وأهمية العودة إلى «ميدان الوحدة» في «التحرير» لتجتمع القوى وتنبذ الجدل العقيم بين الكيانات السياسية المتباينة، المتصارعة والمنشغلة بجني ثمار ثورة وليدة، فيما ينقض عليها النظام السابق بعتاده وعناده ورجاله. رسم المتظاهرون وجوه مبارك ورجاله وأولاده، مستخدمين أنواعاً مختلفة من الطلاء والفراشي، فيما وفّر البعض الآخر على نفسه عناء الرسم، فألصق صوراً ملونة جاهزة أسفل حذائه. واللافت أن جميع المشاركين في التظاهرة لم يخجلوا من رفع حذاء ممزق أو متهالك، ولا من إحضار عدد من الأحذية القديمة رسم في المنزل على نعالها لتوزيعها على المشاركين. بل أنشأ متظاهرون نصباً سمّوه «نصب الجزمة لكل اللي مالهوش لازمة»، وانهالوا عليه رشقاً بالأحذية التي يلقونها فتسقط أرضاً، ليلتقطها آخرون فيلقونها مجدداً، وهكذا على مدار ساعة كاملة. يقول أحد منظمي التظاهرة، ملاك مينا يوسف، وقد بدت أمارات الغيظ على ملامحه: «صُدمنا جميعاً بعد الحكم على مبارك ورجاله. شعرنا، وما زلنا نشعر، بأن الثورة تُسرق منا، وأننا كومبارس في مسرحية معروفة نهايتها مسبقاً، لذلك قررنا الخروج... وبالأحذية!». ويقول إسماعيل عبدالكريم، وهو أحد الفنانين الذين «أبدعوا» التظاهرة: «قد يعتقد البعض أن ما نفعله قلة أدب أو خروج على اللياقة، لكن كل ما فعلناه لا يعدو كونه فنّاً تعبيريّاً، بسيطاً وواضحاً، أردنا من خلاله توجيه رسالة قوية، علَّنا نستطيع أن نحضّ الآخرين على الإنصات إلينا». أما زميلته الفنانة نادية بركات، فتوضح أن التظاهر فن تمارسه الجماهير حول العالم، «كلٌّ يمارسه بطريقته الخاصة، وفي الأحوال العادية نتظاهر باللافتات والصور، أي في الشكل التقليدي، لكن ما حدث في المحاكمة دفعنا إلى رفع الأحذية عالياً، عوضاً عن الصور واللافتات». وتضيف: «بدأت الحكاية بأن اتفقنا على أن يرسم كل منا على حذائه الشخصي، ثم طورنا الفكرة، وبدأنا نرسم للآخرين، كما أحضرنا صوراً وألصقناها على الأحذية القديمة التي جمعناها من كل مكان. هكذا، رفعنا مئات الآلاف من الأحذية، تنديداً بما يحدث في مصر. سندرج الحذاء كإحدى وسائل الاحتجاج الرسمي، ونطالب بيوم عالمي للاحتجاج بالأحذية!».