اعتبر بنيامين نتانياهو في كلمته أمام مؤتمر معهد الأمن القومي في تل أبيب أواخر أيار(مايو) الماضي، أن بلاده تواجه راهناً أربعة تحديات أمنية؛ هي على التوالي بحسب تصنيفه لأولويتها: المشروع النووي الإيراني، ثم الصواريخ المصوبة تجاه إسرائيل من غزة ولبنان، ثم الحرب «السيبرية» التي تعني مهاجمة شبكات الحواسيب العسكرية والمدنية، ثم مستودعات الأسلحة في المنطقة. ولا نعتقد أن نتانياهو ورهطه من السذاجة إلى الدرجة التي تجعلهم يغفلون عن كون التحديات التي تتربص بدولتهم، هي أكثر بكثير مما استطردوا إليه في مؤتمرهم. ولا يقدح في هذا الاعتقاد القول إن نتانياهو إنما قصد الإشارة إلى التهديدات الأمنية الخارجية بالذات. فحتى على هذا الصعيد ثمة ما يدفعنا إلى الزعم بأن العقل الاستراتيجي الإسرائيلي لا يسعه الاستخفاف بتحديات ربما كانت أكثر إلحاحاً من «السيبرية» وصواريخ غزة، لا سيما أن كان الحديث يدور حول الأجلين المتوسط والممتد. من ذلك بلا حصر، تحدي انبعاث الكيان السياسي الفلسطيني وإعادة تبلوره واستقطابه للاعترافات الدولية، وهو ما قد يشكل النقيض التاريخي لسيرورة الكيان الصهيوني. والتحدي المنبثق من عدم اليقين إزاء مآلات التحولات الأيديولوجية والنظامية المتفاعلة بالجوار الإقليمي العربي. والتحدي المرتبط بمستقبل تجدد النزوع الروسي إلى مزاحمة الظهير الأميركي لإسرائيل على قمة النظام الدولي، والتحدي المحتمل الناجم عن اهتزاز مكانة إسرائيل وصورتها في عالم الغرب بعامة ولدى الرأي العام الأوروبي بخاصة؛ الذي بلغ حد اعتبارها دولة سيئة السمعة وخطيرة على الأمن العالمي. كذلك فإنه ليس بلا مغزى سلبي بالنسبة لأمن إسرائيل، أن يتزايد عدد اليهود، الذين لا يرون في الهجرة إليها حلاً أمثل لوجودهم وحيواتهم أو ملاذاً أخيراً لاستقرارهم في هذا العالم الفسيح. في كل حال يصح لنتانياهو ونخبة الاستراتيجيين الإسرائيليين أن يستبعدوا هذه التحديات ونحوها من حساباتهم للأخطار الأمنية الخارجية الضاغطة، سواء جاء هذا الاستبعاد عن تقليل من شأنها أو عن جهل حقيقي بوطأتها على دولتهم. لكن ما لا يمكن إدراجه في باب الاستبعاد العفوي، هو حجم التهديدات والأخطار التي تواجهها إسرائيل على المستوى الداخلي، حيث تتفاعل هذه التحديات تحت سمع المعنيين وبصرهم. ومنهم من ينبه إلى إلحاحها وأهميتها بالنسبة إلى مستقبل الدولة وجوداً وزوالاً. فمنذ بداية العام 2012 والحديث لا ينقطع في إسرائيل عن التهديد الذي يمثله تمرد المستوطنين وعدم التزامهم النظام العام والقوانين، إلى درجة استمرائهم للتعدي بالقول والفعل على بعض الوحدات العسكرية المخصصة أصلاً لحمايتهم. وكان بعض كبار المسؤولين الإسرائيليين قد عقبوا على واحد من هذه التعديات بأن «...المستوطنين يوشكون على أن يصبحوا دولة داخل الدولة...». إلى ذلك، ثمة أنماط من الحقائق الاجتماعية والاقتصادية التي تذرع تضاعيف «المجتمع الإسرائيلي» طولاً وعرضاً، وتوجب القلق الأمني مثل الفساد الأخلاقي والمالي والإداري؛ الذي حمل رئيس الدولة السابق إلى السجن. وانتشار عصابات ومافيات الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات والدعارة. والانشطارات والصدوع الثقافية الطولية إلى درك التربص، ولعله العداء، بين جماعات المتدينين والعلمانيين، وبين المهاجرين والمستوطنين القدامى والجدد. والتفاوت الطبقي المذهل الذي يقذف بنحو ربع الإسرائيليين إلى ما دون خط الفقر ويودع عشرهم في هاوية الجوع والمسغبة. ذلك في الوقت الذي تلتهم فيه الموازنة العسكرية معدلات قياسية من الناتج العام، حفاظاً على قابلية الدولة لاحتلال الشعب الفلسطيني وجاهزيتها للعدوان على دول وشعوب أخرى في أي لحظة. المعروف فقهياً، أن الدول الواعية استراتيجياً لا تستثني من حساباتها الأمنية الشاملة التهديدات المتربصة بجبهتها الداخلية. وفي حالات بعينها تحظى مقاربة هذه النوعية من التهديدات بالأولوية، على اعتبار أن جبهة داخلية موشاة بالصدوع والخروق والأعصاب العارية لا يسعها مواجهة الكثير من التحديات الخارجية. والحال أن إسرائيل، بعد أربعة وستين عاماً من إعلانها، ليست في أفضل أحوالها الأمنية. وفي تقديرنا أن نتانياهو ونخبته الاستراتيجية على دراية كافية بهذه الحقيقة. لكن الدراية بالحقائق شيء والإفصاح عنها على الملأ شيء آخر. * كاتب فلسطيني