ما الذي توحيه مثل هذه العبارة (رائحة الذكريات.. عبق القلب)، هل للذكريات رائحة، هل تستحضر الذاكرة رائحة ما، مثلما تستحضر الجروح، الوجوه، الاماكن، والأحداث؟ لكبار السن حيلة يمارسونها على الأطفال، ربما لا يدركون تفسيرها، لكنهم يؤدونها بقناعة عجيبة بفعاليتها، وهي وضع قطعة ملابس أو قماش لأم الطفل أو أبيه عندما يفقده لموت أو طلاق أو سفر ويعجز عن النوم، فتراه يأنس بها وينام ويكف عن البكاء. المغتربون عن عائلاتهم عندما يعودون، ينامون لياليهم الأولى كالأطفال، تحتضنهم رائحة الذكريات، تحيطهم بأمان واطمئنان، وتعطيهم زاداً روحياً ربما هو ما يشكل جزئية من رائحة الوطن، رائحة الأرض. هل سبق أن شعرت فجأة أن رائحة تحبها طرأت عليك كما تجول الصور في خيالك؟ هل أحسست يوماً أنك تستنشق رائحة تعلم يقيناً أنها غير موجودة؟ هي تحيطك وجدانياً لأنها ارتبطت بإنسان أو مكان، ولأنها تشكل الرابط الوحيد ربما بمن تحب. يتذكر المهتمون بالتاريخ رسالة نابليون إلى جوزفين وهو عائد إليها بعد غياب طويل في الحروب، وطلبه في ختامها أن لا تستحم، وقد أغفل التاريخ كثيراً هذه الرسالة، لأن تاريخ الحرب أهم من تاريخ الحب، والتفت إليها باحثون في الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولاياتالمتحدة، وبعد تجارب كثيرة أثبتوا نظريات عدة، من بينها أن الرائحة عند أكثر المخلوقات بما فيها سيد الكائنات هي سبب الوقوع في الحب. هذا في التاريخ الأوروبي، والمعامل الأميركية، فماذا عن العرب، أكثر الأمم عاطفة وعاطفية، يقع بعضهم في الحب دونما يرى أو يشم، فهل تختلق مخيلته رائحة لحبيبته كما تختلق صورة متخيلة لها؟ أعتقد أنهم يفعلون وشاعرهم وعاشقهم تغزل في رائحة أنفاس لم يشمها لأمرأة لم يراها، في واحدة من أعجب خفايا الحب، وعجائب النفس البشرية. أطباء العيون يجيرون الحب والانجذاب إلى العين، لأنها بوابة كل ما يقرأه العقل ويحسه القلب، وأطباء القلب ينفون هذه النظرية بالاستدلال بالحب بين المكفوفين، والحب من خلال المكالمات الهاتفية والمحادثات الإلكترونية، لكن أطباء «الفيرمونات» يجيرون كل ذلك إلى الرائحة، فربما تكون الصيغة التوفيقية بينهم أن نعتبر لكل قلب رائحة. وأخيراً ففي قصة يوسف عليه السلام، أن أباه يعقوب عليه السلام ارتد إليه بصره عندما ألقي عليه قميص يوسف، وفسر بعض العلماء ذلك بأن مادة في عرق الإنسان لها تأثير في إزالة المياه البيضاء، وفسرها بعضهم بأنه اشتم رائحته، وفي كلا الحالين هي معجزة من المولي العزيز القدير، لكن الاقرب إلى الواقع أنه اشتمه بعمق حزنه على فراقه، ولم يمسح به عينيه، ففرح معتبراً رائحته كأنها لقاءه، والله أعلم، لكنها تفصيلة جميلة في قصة عظيمة. [email protected]