ربما كان جيل السبعينات آخر من ارتعدت فرائصه لذكر اسم «عيشة قنديشة» التي سكنت الخيال وما كفّت عن استحواذها على خيالهم وواقعهم صغاراً، لتكبّل حركتهم وتلتقط أنفاسهم عند حلول الظلام وذِكْر الأمكنة المهجورة النائية. كذلك اختلط الخيال بالواقع على وقع المهابة حيناً والإعجاب أحياناً، والخوف غالباً، من «عيشة قنديشة»، في زمن بدت وسائل الاتصال، كالراديو والتلفزيون أشياء من قبيل السحر أيضاً. و «عيشة قنديشة»، الجنية وفق حكايات بعضهم، والساحرة وفق آخرين، ليست سوى «عائشة القديسة» أو «الكونتيسة» أو «السيدة الحرة» كما تعرف في كتب الأدب والتاريخ. لكن الكبار لطالما هدّدوا بها صغارهم كي يحسنوا التصرّف ويكونوا منضبطين. هي ابنة حاكم مدينة شفشاون (شمال المغرب) من حقبة القرون الوسطى. هي مُجاهدة، عُرفت بحُسنها وقوتها وسعة حيلتها ورباطة جأشها في مقاومة الاحتلال الأجنبي المغرب قبل قرون. صوّرها التراث الشعبي المغربي في شكل أسطوري، واختلفت تفاصيل حياتها وشكلها من منطقة إلى أخرى، إلا أن موتها المرعب اتفق عليه الرواة الذين صوّرها بعضهم ساحرة شريرة، فيما غلب عليها وصف المرأة الفاتنة التي تملك حوافر البغال والبقر والماعز والجمال عند رواة آخرين. وتقول الأسطورة إنها تظهر مع حلول الظلام في الأماكن المهجورة، مثل المقابر والطرق الخاوية. وإن ظهرت على ضفاف المستنقعات الراكدة، أُطلق عليها «عيشة مولات المرجة» أي مالكة المستنقع، تغوي الرجال ثم تتخذهم طعاماً. يقال إن أوصاف «عيشة قنديشة» منبعها حكايات تناقلها جنود أجانب قدماء، لم يروا حسناء بقوتها ومهارتها في ساحة القتال، حتى إنهم كانوا يعتقدون إنها ليست من البشر. مراكش وحكاية «عيشة قنديشة» شعبية رائجة، لا تنحصر في منطقة بعينها، بخلاف غالبية الحكايات الشعبية المرتبطة بأمكنة وأناس محددين. لطالما أسرت القنديشة عقول السامعين منذ قديم الزمن، وطاردهم شبحها في خلواتهم حتى صاروا يتلفتون أثناء سيرهم في كل الاتجاهات. وإذا خفضوا رؤوسهم، فلكي يتفحصوا أقدام الغريبات، إن صادفوهن في أماكن وأوقات غير متوقعة، للاطمئنان إلى أنها أقدام بشرية، وإلا فالاستعداد للمصير المحتوم إن انكشفت العباءات... عن حوافر! وإن بدد انتشار التلفزيون، وأفلام الرعب والسحر، مشاعر الخوف من «عيشة قنديشة»، وخفف وطأتها على مخيلة الكبار والصغار، فإن حكايتها لم تندثر حتى اليوم، واستمرت تُلهم خيال الأدباء والباحثين والحكواتيين المغاربة والأجانب. وغالباً ما يشد الراوي انتباه سامعيه بمثل هذه البداية: «كان يا ما كانْ، حتى كان الحبق والسّوسان، والملك مالكه الرحمان ونصلّيوْا على نبينا العدنان، يا سادة يا كرامْ...»، لينتهي ب: «وهكذا حكايتنا مشات مع الوادْ، وراكمْ افهمتوها يا الجوادْ». وما زال لدى المغاربة ضعف فطري أمام الحكاية الشعبية والعجائبية. وليس أدلّ من «ظهور عيشة قنديشة» عام 2009 لتلاميذ مدرسة ابتدائية في إحدى البلدات وتلقف الإعلام للقصة. فالحسناء ذات الحوافر ما زالت تلهب الخيال وتوقظ الخوف الكامن في اللاوعي الجماعي. في فضاء ساحة جامع الفنا بمدينة مراكش، حيث رواة الحكاية الشعبية أسياد المكان، لا بد أن يحكي الراوي لجمهوره المتحلق حوله حكاية «قنديشة» بنَفَس تشويقي، يستعيد ليالي الرعب في الجبال الموحشة والوديان. وبفضل أولئك الحكواتيين، الذين يتوارثون فن رواية الحكايات الشعبية ويضيفون إليها من خيالهم الصاخب، صنفت منظمة اليونيسكو الساحة معلماً للتراث الشفوي العالمي. وأكثر ما يميز الحكاية الشعبية المغربية أنها ما زالت كطقس يومي في مراكش في ما يعرف بفن الحلقة الذي يجذب سياح الداخل والخارج، وهي محط اهتمام متزايد للسلطات الثقافية بالبلد. أما الحكواتيون، فصار بعضهم من المشاهير، يجوب أوروبا وأميركا لعرض مهارته في فن الحكي على خشبات المسارح وفي استديوات التلفزيونات ومدرّجات الجامعات. ومراكش لا تستأثر بهذا التقليد، فالكثير من الأسواق الأسبوعية في الأرياف يستقبل حكواتيين. التراث الشفوي حي في المغرب. ومهرجان الحكايات الشعبية المستمر منذ سنوات في مدينة تمارة، المجاورة للعاصمة الرباط، تجربة ناجحة في هذا الاتجاه، يعلّم الأطفال فن الحكي ويدعو المؤسسات التعليمية والأسر إلى استلهام دور الرواية الشفوية كوسيلة للتواصل بين الأجيال وما بين الثقافات.