فرغ من أكل كيس «الشيبس» وألقاه على الأرض. لم تقل له الأم: «عيب»، ولم تطلب منه أن يلتقطه من على الأرض. أكملت سيرها بشكل طبيعي ممسكة بيد صغيرها ذي الأعوام الخمسة في الشارع. ثم أنهى شرب علبة العصير، وألقى بها في حوض زرع، ومرة أخرى لم يستفز المشهد الأم، فلم توجه أي لوم أو تنبيه لطفلها. وفجأة شعر برغبة في التبول، فوقف أمام سور مصلحة حكومية، وقضى حاجته ممعناً في نشر فعلته على أشكال هندسية في أكبر مساحة ممكنة، ومر الأمر عادياً بالنسبة الى والدته. وحين رأى سيدة عجوزاً تسير ببطء أمامهما، تحمل حقيبة على ظهرها، لم يتوانَ عن البصق على الحقيبة، فما كان من أمه إلا أن كتمت ضحكتها. المثير أن كلمة «عيب» لم تصدر من الأم إلا حين حاول الصغير أن يمد يده في حقيبتها ليأخذ مالاً يشتري به مزيداً من الحلوى رغماً عنها. تصرفات الصغير المتتالية في حضور والدته، في فترة زمنية لم تتعد الدقائق العشرة تؤكد أن كلمة «عيب» لم تعد تؤدي الغرض نفسه كما كانت قبل سنوات. وهي تؤكد أيضاً أن جزءاًَ مما أصاب القيم والأخلاق وضرب مفهوم التربية في مقتل يعود إلى إعادة تعريف كلمة «عيب». دائماً يكون فصل الصيف فرصة لملاحظة ما يطرأ على الصغار من تغييرات تعكس الكثير من بناء الشخصية المصرية المستقبلية. فالعطلة الصيفية ينتج منها نزوح جماعي للصغار إلى النوادي أو الشوارع أو المصايف أو حتى المراكز التجارية حيث يمكن ملاحظة تصرفاتهم وتصرفات الكبار المصاحبين لهم. فقبل سنوات كان خبراء التربية يحذرون من بعض الظواهر السلبية في التربية التي يتبعها بعض الآباء والأمهات، ربما من غير قصد. فمثلاً، كثيرون يفرحون حين يتفوه الصغير، الذي لا يكاد يفرق بين حروف الكلام، بكلمة سب أو شتيمة موجهة إلى الكبير، فيضحكون ويهللون. وأحياناً يطالبون الصغير بتكرارها على سبيل المباهاة أمام الضيوف والأصدقاء. وفي السياق نفسه، يفرح الأهل ويضحكون حين يصدر عن الصغير صوت مقرف أو مقزز، وكأنهم يشجعونه على تكراره. لكن الزمن تغير، وبات الأهل في أحيان كثيرة يسكتون عن أفعال وتصرفات أعم وأشمل وأكثر خروجاً على القواعد البديهية للذوق واللياقة. سلوى جدة في العقد السادس من العمر، عملت طوال حياتها في مجال التدريس في مرحلة رياض الأطفال، وحين تقاعدت فتحت حضانة للأطفال في سن ما قبل المدرسة. تقول: «أستطيع أن أقول بثقة كاملة أن أصول التربية شهدت انقلاباً كاملاً في السنوات الأخيرة، وللأسف إنه انقلاب سلبي في أغلبه، إذ إن مقاييس العيب ومعايير الأخلاق وصلت الى درجة من الخلل لدى الكبار جعلت الأجيال الصغيرة أشبه بالأحداث الجانحين والخارجين على القانون». وتضيف: «الطفل أشبه بقطعة الصلصال التي يسهل تشكيلها، فإذا تربى مثلاً منذ الصغر على أن يذيل مطالبه بكلمة «لو سمحت» أو «من فضلك»، منهياً كلامه ب «شكراً» على إنجاز المطلب، شب على هذه العادة. وإذا تعود على أن يأمر بإنجاز مطالبه، ولا يشكر من قام بها، فسيشب على ذلك أيضاً». محاولات هذه السيدة لتعليم الأطفال قواعد الذوق واللياقة في داخل حدود الحضانة كثيراً ما تصطدم بالمدرسات الشابات أنفسهن اللاتي بتن لا يلتزمن بمثل هذه القواعد، بل وبالأهل الذين يرى بعضهم في مثل تلك الأمور تفاهة وسطحية لا تضاهي أهمية أن يتعلم الابن أو الابنة كلمات بالإنكليزية أو أن يأكل الصغير وجبة الغذاء كاملة. وعلى الشواطئ المزدحمة ومقاهي المراكز التجارية التي تشهد إقبالاً كبيراً من الأسر المصرية، تكثر مشاهد تبرهن على إعادة صوغ كلمة «عيب». وما أكثر مشاهد لعب الصغار بالكرة فوق رؤوس المصطافين من دون أن تهتز شعرة للأب أوالأم، بل كثيراً ما تنشب معارك «شاطئية»، لأن الأب يدافع عن حق ابنه في اللعب. وفي المقاهي والمطاعم، لا مانع من أن يلعب الصغار بالكرة ويسكبوا زجاجات «الكاتشاب» على مرأى الأهل. الغريب أن انقراض كلمة «عيب» تزامن وصعود نجم كلمة «حرام» التي باتت ركيزة من ركائز التربية الحديثة. فالصياح في داخل الحمام «حرام» لكن الصياح عموماً ليس «عيباً». والأكل باليد اليسرى «حرام» لكن التخلص من الفضلات بالإلقاء من النافذة ليس «عيباً». وما يلاحظ كذلك هو أن هذه التغييرات التي طرأت على مفهوم كلمة «عيب» واستخداماتها ليست حكراً على فئة اجتماعية أو اقتصادية من دون غيرها، بل يمكن القول إنها باتت سمة من سمات التربية لدى كثيرين، على رغم وجود استثناءات بسيطة ما زالت تتمسك بالمفهوم الكلاسيكي لكلمة «عيب»، وإن نعتها البعض ب «الرجعية» أو «التزمت» أو حتى «التخلف».