تميّزت الدولة العثمانية عن غيرها من الدول الإسلامية السابقة بكونها دولة بيروقراطية متماسكة الأركان حرصت على توثيق كل أمورها على الورق خلال خمسة قرون ونيف، ما رتّب ثروة كبيرة من الوثائق التي تتجاوز المئة مليون في إسطنبول، التي أصبحت لا غنى عنها لكل من يبحث في التاريخ العثماني. وفي هذا السياق اهتم النظام القضائي الجديد في الدولة العثمانية في تدوين كل القضايا التي تطرح أمام المحاكم (بيع وشراء ورهن وإيجار وزواج وطلاق الخ) في سجلات منظمة تحفظ فيها. ونظراً لأنّ التاريخ الحديث للبلاد العربية يعني تاريخها خلال الحكم العثماني تصبح المصادر العثمانية لا غنى عنها لدراسة تاريخ هذه البلاد. ولكن حال التوتر التي ميّزت العلاقات العربية التركية في السنوات الأخيرة للحكم العثماني، وافتراق المصائر بعد الحرب العالمية الأولى، خلقا حالاً من الابتعاد عن المصادر العثمانية لدى الجيل الأول من المؤرخين الذين درسوا في الغرب وكان لهم تأثيرهم الكبير في مدرسة التاريخ الشامية الحديثة (قسطنطين زريق ، نيقولا زيادة ، الخ). ومع الاهتمام المتزايد في الغرب في النصف الثاني للقرن العشرين بالمصادر العثمانية، الذي أنجب سلسلة من الدراسات المهمة، برز أيضاً الاهتمام الجديد في تركيا والبلقان بسجلات المحاكم الشرعية، الذي أثمر بدوره سلسلة من الدراسات الجديدة التي بيّنت مدى أهمية هذه السجلات للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي في شكل خاص. وفي ما يتعلق ببلاد الشام، بدأ هذا «الاكتشاف» مبكراً ولكنه لم يثمر ويثبت جدواه إلا في الربع الأخير للقرن العشرين، حيث أصبحت سجلات المحكمة الشرعية مصدراً مهماً لدراسة تاريخ بلاد الشام خلال الحكم العثماني وتشكلت بذلك إحدى سمات المدرسة التاريخية الشامية. ومع أن الأردني عبد الكريم غرايبة كان أول من استخدم سجلات المحاكم الشرعية (ولو لمرة واحدة) في أطروحته للدكتوراه «التجار الإنكليز في سورية 1744-1794» التي ناقشها في جامعة لندن عام 1950 إلا أنه لم يتابع ذلك في أبحاثه إذ أنه بقي سنوات في الأردن إلى أن انتقل للعمل في قسم التاريخ بجامعة دمشق (1958-1962) وبعدها إلى قسم التاريخ في الجامعة الأردنية التي أنشأت في 1962، وهي الفترة التي تماهت مع نمو القومية العربية والوحدة السورية المصرية التي كانت لها نتائجها في هذا المجال. ومن هنا يمكن القول إن المؤرخ الحموي أحمد قدري الكيلاني (1886-1980) كان أول من تنبّه إلى قيمة سجلات المحاكم الشرعية كمصدر مهم للتاريخ المحلي واشتغل عليها ووجّه تلميذه الباحث عبد الودود برغوث إلى العمل فيها. وتجدر الإشارة إلى أن الكيلاني كان من الجيل المخضرم الذي عايش الحكم العثماني وتعلّم على النمط التقليدي لكنه أدرك مبكراً أهمية المصادر المحلية (سجلات المحاكم الشرعية والوقفيات والمخطوطات الخ) في دراسة التاريخ المحلي لحماة. وبالاستناد إلى ذلك أنجز عمله الموسوعي «تراجم أعيان حماة وما حولها ابتداء من القرن الأول الهجري حتى القرن الرابع عشر»، التي نُشر قسم منه فقط (الملك العالم أبو الفداء والملوك الأيوبيون في مملكة حماة) بتحقيق الدكتور عبد الرزاق الكيلاني بعد عشرين سنة من وفاته (دمشق، دار الفكر 2000). لكن هذا التوجه أثمر أكثر مع تلميذه الحمصي عبد الودود برغوث. وكان برغوث قد ولد في حمص عام 1938 ودرس التاريخ في جامعة دمشق واشتغل في مديرية الآثار بدمشق، حيث وجد الجو العلمي لمتابعة أبحاثه في هذا المجال. وهكذا أخرج أول دراسة منشورة تعتمد بالكامل على سجلات المحكمة الشرعية بحماة «تاريخ حماة الاجتماعي والاقتصادي والإداري مستمداً من سجل المحكمة الشرعية لعام 989/ 1581م»، تلك التي نشرت عام 1966 في مجلة «الحوليات الأثرية العربية السورية». وقد تابع أبحاثه في هذا المجال فأصدر دراسة أصيلة بعنوان «صناعة البارود في حماة في القرن السادس عشر» نشرت في مجلة «الحوليات الأثرية العربية السورية» (عدد 18، دمشق 1968) واعتمد فيها على حوالى أربعين سجلاً من سجلات المحكمة الشرعية بحماة. وفي هذا السياق جاء الأردني عبد العزيز عوض ليستخدم سجلات المحاكم الشرعية في شكل محدود في أطروحته للماجستير «الإدارة العثمانية في ولاية سورية 1864-1914» التي ناقشها في جامعة القاهرة عام 1967، بينما أكمل برغوث مشواره الرائد وناقش بنجاح في جامعة عين شمس عام 1970 أول رسالة ماجستير بنيت بكاملها على سجلات المحاكم الشرعية: «لواء حماة في القرن السادس عشر: نظام الحكم وبنية المجتمع من سجلات المحكمة الشرعية بحماة». وفي تلك الفترة جاء دمشق بوعي مسبق بأهمية سجلات المحاكم الشرعية، الباحث الأردني محمد عدنان البخيث لإعداد أول رسالة دكتوراه استفادت في شكل واضح من هذه السجلات «لواء دمشق العثماني في القرن السادس عشر»، تلك التي ناقشها في جامعة لندن عام 1972، وعاد بعدها ليعمل في قسم التاريخ بالجامعة الأردنية. وقد أثمر هذا التوجه الجديد في بلاد الشام ليكرّس مدرسة جديدة أثمرت العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه بعد أن نوقشت في قسم التاريخ بالجامعة الأردنية عام 1974 أول رسالة ماجستير من هذا النوع لأكرم الراميني «نابلس في القرن التاسع عشر: دراسة مستخلصة من سجلات المحاكم الشرعية بنابلس». وفي غضون ذلك كان السوري عبد الكريم رافق قد ناقش أطروحته للدكتوراه في جامعة لندن «لواء دمشق العثماني 1723-1783» خلال 1963 والتحق بقسم التاريخ في جامعة دمشق حيث اكتشف لاحقاً أهمية سجلات المحاكم الشرعية في كتابه «العرب والعثمانيون 1516-1916» (دمشق 1974)، إذ أشار في هامش بقائمة المصادر إلى «الوثائق والحجج المخطوطة باللغتين العربية والتركية العائدة للمحاكم الشرعية... مثل وثائق محاكم حلب ودمشق في مديرية الوثائق التاريخية». إلا أنه لم يستخدمها سوى مرة واحدة. لكن رافق أصبح الاسم الأبرز في هذا المجال بعد أن نشر خلال السبعينات والثمانينات سلسلة من الدراسات التي تركز على التاريخ الاقتصادي والاجتماعي آنذاك بالاستناد إلى سجلات المحاكم الشرعية والتي أعاد نشرها بدمشق عام 1985 في كتاب بعنوان «بحوث في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي لبلاد الشام في العصر الحديث»، ووجّه بعض طلابه للماجستير والدكتوراه نحو هذا المجال. وبالعودة إلى الباحث الرائد في هذا المجال (عبد الودود برغوث) فقد تابع أبحاثه وأنجز رسالته للدكتوراه إلا أنه لم يستطع أن يناقشها نظراً للتطورات التي حدثت في سورية. فقد عُرف عن الباحث برغوث معارضته للانقلاب العسكري الذي أوصل حزب البعث للسلطة في 1963، ولذلك اعتقل في 1964 وخرج بكسر في أحد أضلاعه من سجن المزة بعد شهور. وتزامن إنجازه لرسالة الدكتوراه مع الاعتصامات النقابية القوية في 1980، وتضامن مع اعتصام نقابة المحامين باعتباره عضواً في جمعية البحوث والدراسات في «اتحاد الكتاب العرب» فاعتقل في صباح يوم الاثنين 31 آذار (مارس) 1980 وأرسل إلى سجن تدمر هذه المرة، حيث غابت أخباره تماماً منذ ذلك الحين ولا يعرف عنه حتى الآن ما إذا كان على قيد الحياة أو أنه رحل عن الحياة مع حوالى 500 من ضحايا مجزرة 27 حزيران (يونيو) 1980 التي حدثت في سجن تدمر ولم يتحمل أحد مسؤوليتها حتى الآن. وعلى رغم هذا العمل الرائد للباحث برغوث إلا أن غيابه لم يتفقده أحد: لا «اتحاد الكتاب العرب» الذي هو أحد أعضائه ولا زملاؤه في هذا المجال الذي نحتفي به الآن (سجلات المحاكم الشرعية كمصدر للتاريخ الاقتصادي الاجتماعي في بلاد الشام)، لكن نأمل أن يأتي قريباً اليوم الذي تنشر فيه دراساته الرائدة التي لا تزال لها قيمتها ويعاد له الاعتبار والكشف عن مصيره بعد هذا التعتيم المتواصل عليه منذ 1980.