عندما يكون ملخص القضية الإعلامية: نائب رئيس الوزراء السابق وكبار مشاهير بريطانيا اختُرقت هواتفهم. المستشار الاعلامي لزعيم المعارضة - الذي قد يصبح قريباً رئيس وزراء بريطانيا - متورط في الاختراق القانوني. نواب البرلمان مضللون في فهم ما يجري. الشرطة والقضاء متهمان بغض النظر و «لفلفة» القضايا. غياب القواعد الصحافية التي تنظم حدود اقتحام الحياة الخاصة. فلا عجب في ان يصفها اندرو نيل، أحد كبار الإعلاميين البريطانيين، بأنها «القصة الإعلامية الأهم في السنوات الأخيرة». الفضيحة الأخيرة كشفتها صحيفة «ذي غارديان» التي قالت ان الصحف التابعة لامبراطورية روبرت مردوخ، وأهمها الصحيفة الاسبوعية «نيوز أوف ذا وورلد» واليومية «صن»، استعانت برجال تحر خاصين للوصول الى معلومات تخص مشاهير المجتمع، مخترقة الرسائل الصوتية والمكتوبة على هواتفهم النقالة، إضافة الى رسائلهم الالكترونية. لكن القضية ومنذ نشرها قبل أيام في موقع الصحيفة قبل ان تنشر صباح اليوم التالي في الصحيفة الورقية ذاتها، استدعت ردود فعل كثيرة، لأنها تخص هذه المرة قضية فساد في الجسم الإعلامي نفسه، لا في مجال آخر، مثل عالم السياسة او الأعمال أو الرياضة، على سبيل المثال. لسنوات طويلة، عاشت الصحافة البريطانية، الشعبية تحديداً والمعروفة بال «تابلويد»، على دفع مبالغ مالية للحصول على قصص تشد القارئ وتبيع مزيداًَ من النسخ، بغية جذب مزيد من الإعلانات والدخل المادي. وكان الحصول على معلومة ما في الماضي يقوم على دفع مبلغ لشخص مقرب من الشخصية المقصودة يسرّب معلومات عنه، أو البحث في سجلات المنطقة من خلال رشوة الموظفين، أو في بريد الشخص من خلال إغراء ساعي البريد... وغير ذلك. لكن الانفجار الكبير في تكنولوجيا الاتصالات وتطورها ساهم في تسهيل عملية اختراق المعلومات الشخصية. وأصبح كل ما يحتاجه الصحافي هو اللجوء الى أشخاص يعملون في شركات الهواتف والانترنت يمكنهم تسريب الرقم السري لفتح هاتف جوال مثلاً، والى واحد من «الهاكرز» يمكنه اختراق كلمة المرور (السرية) للدخول الى البريد الالكتروني المقصود، أو التسلل الى أجهزة الكومبيوتر والوصول الى المعلومات المحفوظة فيها. وينسلي كراكسون كتب مقالاً في صحيفة «غارديان» بعنوان «اعترافات صحافي تابلويد»، يشرح فيه تقاليد عمل هذه الصحف المعروفة للجميع والتي لا يريد أحد ان يناقشها في العلن، وهو مطّلع على سلوكها نظراً إلى عمله فيها منذ كان في العشرين من عمره أواخر سبعينات القرن الماضي، قبل ان يهجرها لقرفه منها. وقد تورط في عمليات اختراق خصوصيات الأفراد من أجل الحصول على مادة تثير اهتمام القراء، مثل رشوة رجل شرطة او عشيقة سرية لرياضي ما، بخمسين جنيهاً استرلينياً، للحصول على معلومة خاصة عن حياته. وعندما ارتفعت حدة المنافسة بين الصحف الشعبية في الثمانينات، صار المحررون يقدمون على أي شيء في مقابل الحصول على «سكوب» (سبق صحافي) خاص يزيد المبيعات. وارتفعت بالتالي المبالغ التي تدفع لمفاتيح الموضوعات الذين تكون لهم صلة ما بالمشاهير، من العائلة المالكة الى الرياضة مروراً بالسياسة والأعمال والفن. وكانت حدة المنافسة تصل إلى حد ان كراكسون كان يصل الى منزل أحدهم ليجد صحافياً آخر قد سبقه! وتجري المزايدة على باب منزل ذلك الشخص، من سيدفع له أكثر! ولأن حمى المنافسة أصبحت شديدة في السنوات اللاحقة، فإن الذي يدفع أكثر يستأثر بقصص فضائح أكثر، وهذا ما توافر لصحيفة مثل «نيوز أوف ذا وورلد» التي نافست حتى شقيقتها «صن» في فضائحيتها بسبب موازنتها المرصودة التي تعوضها بزيادة المبيعات (بلغت مبيعات الأولى أخيراً 2.924.137 مليون نسخة، وبلغت شقيقتها اليومية رقم توزيع مقارباً). ومن المعلومات الطريفة التي يوردها كراكسون ان الافساد يتجاوز رشوة الموظفين واستمالة المقربين الى ابتزاز المشاهير، من خلال مواجهتهم بماضيهم، أو بمعلومة تسبب لهم الفضيحة، مثل تعاطي المخدرات. ويتم الاتفاق مع الشخص على ان يعطي حواراً للصحيفة يعترف فيه ببعض تفاصيل حياته المثيرة، في مقابل التخفيف من حدة الفضيحة موضوع المساومة. ويقول ان حالات كثيرة تمت بهذه الطريقة، «وكل طرف يذهب بعدها الى بيته سعيداً، وهو الرابح»! غير ان اختراق الحياة الخاصة يطاول أحياناً أشخاصاً عاديين. وبحسب كراكسون، فإنه يعرف على الأقل عائلتين طاولهما النبش في تفاصيل حياتهما من خلال التنصت والمراقبة بالكاميرا... وغير ذلك، بعدما شارك أفراد من العائلة في برامج الواقع التلفزيونية. ومع ان حماية الحياة الخاصة محفوظة في القانون البريطاني، إلا ان القضايا المرفوعة من أفراد على الصحف الشعبية تنتهي دوماً بمصالحة ما، تدفع بموجبها الصحيفة مبلغاً كبيراً للمشتكي. ويكتفي الادعاء العام والقضاء باتخاذ إجراءات معينة، من غير ان يتدخل كثيراً لتجريم الصحف المتجاوزة، ويبقى العاملون في الصحف والمحققون الخاصون بعيدين من أية مساءلة. هناك استثناءات جرت من بينها الحكم بالسجن بداية العام 2007 على كلايف غودمان، محرر الشؤون الملكية في صحيفة «نيوز أوف ذا وورلد»، اضافة الى محقق خاص ساعده في الحصول على المعلومات، بتهمة استراق السمع الى رسائل صوتية على هواتف موظفي العائلة المالكة، ومن خلال هذه الرسائل عرفت الصحيفة بخبر إصابة الأمير ويليام حفيد ملكة بريطانيا في ركبته، وهو الخبر الذي لم يعلنه قصر باكينغهام في حينها لكن الصحيفة نشرته. وقد تعامل القضاء مع هذه القضية تحديداً باهتمام لأنها تخص أحد أفراد العائلة المالكة، ولا علاقة لها بأي مصلحة عامة. الصحيفتان التابعتان لامبراطورية مردوخ والمقصودتان بالاتهام («صن» و «نيوز أوف ذا وورلد») التزمتا الصمت ولم تعلقا على القضية المطروحة، بينما خصصت صحيفة «تايمز» التابعة للامبراطورية ذاتها، صفحتين راجعت فيهما ملف القضية ولخصت عناصرها، وربما دفعها الى ذلك ان المدعي العام البريطاني أمر بفتح الملفات الخاصة بشكاوى المشاهير بخصوص التنصت على هواتفهم. وسخر بيتر ويلبي، رئيس التحرير السابق ل «اندبندنت اون صنداي»، من صمت الصحيفتين، مذكّراً قراءه في صحيفة «ذي غارديان» بمقولة تعود الى هارولد ايفانز، أحد رؤساء تحرير «ذا تايمز» في الفترة السابقة على شراء مردوخ لها. ففي حمأة وجود صراع بين الصحيفة وعمال المطابع أواخر سبعينات القرن الماضي، قال لصحافييه انه إذا لم يثق القراء بهم في تغطيتهم لقضايا تخص صحيفتهم الخاصة، فإنهم لن يثقوا بهم في تغطية أي قضية أخرى! قضية التنصت هذه التي اطلق عليها اسم «مردوخ غيت»، فتحت النقاش حول قضايا مسكوت عنها في الصحافة البريطانية ككل، وليس في الصحف الشعبية فقط، مثل: أين الحد الفاصل بين ما هو قانوني وما هو أخلاقي؟ وأين حدود حق القراء في الاطلاع على الحقائق؟ وما هي التفاصيل التي تهم عموم المجتمع وتتحقق معها «المصلحة العامة»؟ هل تدخل فيها تفاصيل خاصة جداً بحياة المشاهير، مثل معرفة شعور أحدهم عند إنجابه طفلاً، كما حصل في حالة اختراق هاتف الممثلة غوينيث بالترو؟ يبدو ان الصحف الشعبية لا تحقق أية مصلحة عامة باختراق هواتف موظفين في القصر كي يخبروا قراءهم بإصابة ركبة ابن ولي العهد، فالقضية المهمة مثلاً تتعلق بخرقٍ للقانون قام به الموظفون أو الأمير نفسه. يذكر هنا ان التحفظات السابقة لا تقتصر على صحف ال «تابلويد» فقط، بل الصحف الجادة أيضاً، فعندما فضحت صحيفة «دايلي تلغراف» مصاريف نواب البرلمان وأعضاء الحكومة أخيراً، طرحت التساؤلات حول شرعية الحصول على المعلومات بطريقة غير شرعية، وهل تبرر الغاية الوسيلة فيكون فضح الفساد عبر خرق القانون، بالسرقة مثلاً من ملفات رسمية؟ إنها قضايا سيجد الجسم الصحافي نفسه أمامها لمناقشتها لأنها تمس أخلاقياته المهنية، والجدل حولها تحركه جهات أخرى تتابع الأداء الإعلامي مثل «ميديا ستاندرد ترست» وهو جمعية نفع عام معنية بالشفافية والقواعد الأخلاقية في وسائل الإعلام، كذلك مفوضية الشكاوى الخاصة بتجاوزات الإعلام «برس كومبلينس كوميشين»، إضافة الى اتحاد الصحافيين وكل التنظيمات المدنية المعنية بالحريات العامة. لكن صحيفة «ذي اندبندنت» المنافسة اللدودة ل «غارديان» حذرت من ان تكون هذه القضايا اللاأخلاقية مدخلاً للتضييق على الحريات الصحافية والتحقيقات الجادة. ورأت ان بعض من هم في مواقع السلطة قد يجدونها فرصة للانتقام من صحف تفضح فسادهم من خلال سن قوانين مقيدة، وذكّرت بأن الإعلام الحر، على علاته الحالية، يبقى أفضل من أي بديل آخر. وفات الصحيفة ان الإعلام في فضحه الفساد داخل المجتمع، يجب ألا يصمت على فساد أهل الصنعة أنفسهم.