في الخامس من حزيران (يونيو) 1967، وقعت حرب مع إسرائيل، كان طرفها الرئيس على الجانب العربي، مصر بقيادة عبدالناصر. الحرب انتهت بسرعة، بهزيمة مصرية كارثية. لكنها سرعان ما اعتبرت هزيمة للعرب ككل، تطور الموقف منها، بحيث غاص في نفس أبناء هذه المنطقة وتفكيرهم، إلى أن اعتبرت أكبر هزائم العرب في تاريخهم الحديث. بعد خمس وأربعين سنة على تلك اللحظة، حيث العالم العربي يتحول نحو مرحلة جديدة من التاريخ، قد يكون من الضرورة مواجهة بعض جوانب السردية العربية الحديثة، في واحد من أخطر مكوناتها الإيهامية، وفي هذا المجال يتوجب السؤال: هل إن حزيران 1967، هو بالفعل « هزيمة» عربية، أم أنه هزيمة المشروع المصري للعروبة، أي الطبعة المصرية منها، كما تجلت في العصر الحديث، وكما ظهرت ونمت، بدايةً من الانتباه إلى أوروبا الحديثة، وما سمّي بعصر النهضة، ومشروع محمد علي، وصولاً الى المشروع الناصري. وكلها على ما نعرف، انتهت الى فشل، أو إلى هزائم متكررة. غير أن هذا الفصل ولا شك، هو الذي شهد التبلور الجديد، المعروف بالعروبة الحديثة، كما ظهرت مباشرة بعد الفترة العثمانية. وبأخذ تتابع الفترات، كما عاشتها المنطقة، منذ بدء تراجع الحضارة العربية، بعد احتلال بغداد على يد المغول عام 1258، يتمثل أمامنا خط متصل من الحضور المصري، ظل يتزايد مركزية، ابتداء من الدولة الفاطمية، التي هي في الأصل والمصدر، مشروع ارتكز إلى فكرة مشرقية، مثله مثل الدولة الأموية في الاندلس. ولكن نهاية الفاطميين، ومأثرة صلاح الدين الأيوبي، وبعض أدوار المماليك، وصد اندفاعات الخطر المغولي لجهة الشام، وظهور محمد علي وعبدالناصر... كلها حلقات توالت ضمن سياق واحد، حضر على امتداد قرون، وكان بمثابة سيرورة تداركية، عاشت بعد، وفي أثر، ما كان يوماً صعوداً عربياً حضارياً وإمبراطورياً، أعقب فترة ظهور الرسالة والفتح العربي الإسلامي. ومعلوم أن أفكار «القومية» الحديثة وتياراتها، ظهرت في المشرق العربي، وهنا تشكلت حركاتها وتنظيماتها الأولى، وأحزابها الأساسية المعروفة. إلا أن هذه تحولت إلى مشاريع قابلة للتجسيد، وأخذت بعداً «عربياً»، حين تبنتها مصر، بعد أن أضفت عليها تحويرات، تلائم خاصياتها، في ظروف امتازت بنهوض تحرري، جعل في الإمكان السيطرة على جهاز الدولة، من جانب الجيش، بحيث غدا العامل الفعال، والمحرك الرئيس، في البنية المصرية (الدولة) موظفاً لمصلحة مشروع تعدى في حينه، المحلية المصرية، ولاقى لأسباب تاريخية ذكرناها، أصداء في العالم العربي، مع أن هذا المشروع لم يكن مؤهلاً من ناحية «الديناميات»، وآليات الكيان المصري، لأن يكون قاعدة «نهضة» تتجاوز النطاق «الإصلاحي». فمصر لا تنطوي على مثل هذه الديناميات، لا بالمقاييس الحضارية التقليدية، ولا بالمقاييس الحديثة، وبنية الدولة وجهازها، وهيمنته على المجتمع، يمنعان المتغيرات المطلوبة، مع احتمالات التغيير المضاد الثابت، من أعلى. غير أن هذه المتغيرات حين تحدث لا تلامس الجوهر، بينما يظل أساس البنية الآسيوي الاستبدادي للدولة، راسخاً يتجدد. ذلك يجعل المشروع الناصري حالة تضاف إلى تاريخ ينتمي إلى حقبة التراجع، أي «ما بعد النهوض العربي التاريخي» وما أعقب القرن الثالث عشر، ثم سلسلة حلقاته وفتراته. فهو ليس حالة تنطوي على احتمالات «تغيير نوعي» تاريخي في الحاضر، ما ينسحب على جملة «المشروع العربي» الحديث، كما تجلى عملياً، وعلى مستوى الأفكار والتصورات. وما يشمل متغيرات اللحظة الحاليه أيضاً، حيث يتخيل البعض الآن، وفي قلب «الربيع»، أن مصر يمكن أن تكون «طليعة» ونموذجاً محركاً... أي أن مفهوم «القطر الركيزة»، الذي ابتدعه القوميون، عاد يتجدد الآن، مستحضراً من الذاكرة. ما يعني أنهم لم يكتشفوا بعد أن نمط التحول التاريخي الراهن، يعاكس كلياً وفي الجوهر، بنية الكيان المصري. فالاستبدادية، وموقع الدولة البيروقراطية الحاسم، من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، من هنا إلى أجل غير مسمى، تصور استبداله، ببنية مبتكرة تقلبه راساً على عقب. فمصر «ديموقراطية» تعني مصر أخرى، لن تعرف نفسها. وهي ما يصعب تصور متى، وكيف، وخلال أي مدى تاريخي، يمكن أن تظهر. أو بأية مراحل والتواءات وتقلبات، وخلال أي مدى زمني، لا بد من أن يمر، قبل أن تصبح قائمةً فعلاً. هذا إذا افترضنا توافر الديناميات المحركة والدافعة، وتصورنا ديمومتها، وفعاليتها وتجددها، بلا توقف. لم يكن 5 حزيران سوى انغلاق السبل أمام المشروع العربي الحديث بقيادة مصر. وتلك الهزيمة «المصرية»، وهزيمة نظام عبدالناصر، ليست لحظة قابلة للاستدراك. وظاهرة السادات ومبارك جزء من الكينونة المصرية، وممكناتها، لذاتها وللمنطقة العربية. ما اقتضى منذ ذلك اليوم، ويقتضي اليوم تحديداً، تبديل زاوية أو نمط المقاربات التصورية والمفهومية، حتى لا يستمر التناقض الفاضح بين الوعي والحالة الناشئة، وبحيث يستدرك عالم التفكير العربي، مجريات الواقع و «انتفاضاته» الراهنة، ما يقتضي أولاً، تبديل البداهات الإصلاحية، والمخططات المترتبة عليها، وقلب التخطيطات الكمية والافتراضية، بالبحث في الآليات. فليس من المفروغ منه اعتماد «الحجم»، او ما يبدو «انسجاماً مجتمعياً» أو «قوام دولة» متقادمة ومفوتة في العمق، ومعوقة في الفعل، ثم افتراض أن ذلك يبرر القول بأن هذا المكان أو ذاك، هو «ركيزة» للمستقبل. وكل هذه العناصر، توافرت وتتوافر في مصر بالذات، البلد الأكبر، والذي قد لا يكون كذلك على مستوى الفعل الانقلابي التاريخي. ولا بأس طبعاً، بالتساؤل عن أسس المنظور، أو منطلقات الرؤية الموافقة لطلب المستقبل العربي اليوم. وهذه تساؤلات، ما إن تصبح هماً حتى نكون قد انتقلنا نحو منطقة مختلفة، حتى وإن تصادمنا مع الغامض والمجهول. فعمل العقل والفكر الفعال، لا يزهر في الكسل المعرفي. ننتظر ثورة الفكر، في أعقاب ثورة الناس، وهذه معادلة مجحفة، لكن من قال إن شجرة الحياة لها لون واحد؟ التاريخ يسير والبشر يتعلمون. * كاتب عراقي