لا يمكنك أن ترسم شكل المشاعر التي تجتاحك للمرة الأولى وأنت تضع قدميك على عتبة وطنك بعد أن أصبحت مقيماً خارجه وتعمل خارجه، تأتي إلى أرضك بحماسة شديدة لترى هذا التراب، وما أن تدخل إلى الوطن إلا وتنتظر بلهفة شوارع الوطن، مهما كانت لاهبة ومشمسة ومكسرة ومليئة بالحفر، تصل فتجد «التاكسي» الذي يقلّك إلى البيت متسخاً، وتكاد تعافه لولا رغبتك في أن تصل إلى منزلك بسرعة بعد رحلةٍ مضنية، في مجئي الأخير وجدت أن جواز سفري شارف على الانتهاء قررت تجديده، لأنني سألت مراراً عن مدى إمكان تجديد الجواز من السفارات السعودية في الخارج فلم أعثر على جواب يشفي. لم أذهب إلى جوازات الرياض على اعتبارها جوازات عاصمة، بالتأكيد ستكون مزدحمة بالناس والطوابير، قررت أن أجدد الجواز في مدينة بريدة ربما تكون أخفّ، ولأن «الجواز» ليس كغيره من الوثائق بإمكان أي معقّب أن يكفيك تعب الركض من مكتبٍ إلى مكتب، الجواز يتطلب حضور الشخص، لذا حضرت بأوراقي الكاملة إلى «جوازات بريدة»، يستقبلك حارس أمن مقطّب الحاجبين امتلأ بزهوّ بسلطته يتعامل مع الآخرين بشدة وقوة، كان معي صديق سعودي لكنه لم يلبس الزيّ السعودي فلم يسمح له بالدخول، مع أنني أعرف أن الدخول إلى أي دائرة حكومية يتطلب ارتداء الزي السعودي، لكن صاحبي لم يكن مراجعاً، كان فقط برافقتي لكنها إرادة الحارس الذي منع صاحبي من تجاوز عتبة المبنى. آخر شيء يمكن أن تظفر به في جوازات بريدة «الابتسامة»، أو «الكلمة اللطيفة»، شيء لا يصدق، وجوه الموظفين معبسة، وكلما كانت درجة الموظف أقل كانت «تكشيرته» أكبر وأمتن وأجفّ، قررت أن أشاهد وأرى لأكتب هذه المرة، لأنني مواطن، ولأن خادم الحرمين الشريفين أمرنا بنقد الأخطاء التي نراها، ولأن النائب الثاني أيضاً أمرنا بإيضاح كل الأخطاء التي يرتكبها المواطن أو المسؤول، وها أنذا أحدد بالضبط ما الذي أزعجني في جوازات بريدة. هناك استسهال لمسألة رفع الصوت على المواطن، وطريقة عجيبة لدى أحدهم حينما أراد تسليم أحد المواطنين أوراقه، قام برميها عليه بكل شزر وعنف وجلافة وهو ينادي بأعلى صوته على المواطن التالي، غالبية الناس تخضع لهذا الأسلوب لأنها لن تأتي إلى هؤلاء كل يوم، هي مرة كل خمس سنوات، بإمكانك أن تبلع لسانك وتسكت، لكنني رأيت أنني «كاتب» في صحيفة مهمة، وأثق أن المسؤول الأول في جوازات بريدة لا علم له بهذه الأساليب، مع أن الرقابة على الموظف ليلتزم بالسلوكيات العمليّة من اهمّ المهمات أو إلحاقه بدورات لتدريب وتنمية السلوك إن اقتضى الأمر. بعد أن سلمني أوراقي صرخ في وجهي مشمئزاً، وكأنه يتحدث إلى عدوّ! أمرني بالجلوس بطريقة فظّة، المشكلة أنه لم يُبرز اسمه على جيبه لأتمكن من تنبيه رئيسه إلى أسلوبه المنفّر، ولم يعلم هذا المسكين أنه موظف هنا ليمثل «الحكومة» لتلبية احتياجات المواطن، هممت أن أذكّره بكلمة الأمير نايف حينما قال: «المسؤول خادم للمواطن»، لكنني لم أفعل لأنني أفضل دائماً أن أعبّر عن انتقاداتي هنا في زاويتي، كما أن هذا الموظف نسي أنه يمثّل إدارة الجوازات التي ما من مواطن إلا ويحتاج إلى خدماتها، ويراجعها، وموظف الجوازات هو أول شخص سعودي تقابله بعد أن تعود إلى وطنك. في نهاية المطاف انشغل الموظفون ب «الدبّاسة»، اجتمعوا لوضع «الدبابيس فيها»، كلهم يبحث عن مكان وضع الدبابيس بطريقة عجيبة تنبئ عن عبقريات ذهنية فذّة، حاولوا بجهد شديد متسائلين كيف يمكن إدخال الدبابيس إلى جوف الدباسة، بينما المواطن المغلوب على أمره ينتظر بصمت لا يريد أن يدخل بمشكلة تكدّر عليه مرور معاملة جوازه، وبالتالي تعكير أجواء رحلته الصيفية. * كاتب سعودي - دبي