لم يكن اليوم الأول الذي توجهت فيه بحقيبة التدريب مر عادياً دون أن يرسم ملامح الانطباع الأول عن المُشاهد حينها، لم تكن المرة الأولى التي أتوجه بتلك الحقيبة لمراكز وفعاليات مشابهة في عنوان الفعالية وهدفها ورؤيتها، إلا أن الحركة الدؤوبة والجموع الغفيرة والإقبال المستمر المدفوع برغبة شخصية تلمع في مآقي الفتيات اللاتي شاركتهن شعور استنشاق هواء الثقافة برئة طبيعية وصحية ما لم أعهده في مناخ مشابه مثل هذا من قبل... المكان كان مركز الملك فهد الثقافي، والفعالية المخيم الصفي الإبداعي الثاني، والمنظم وزارة الثقافة والإعلام ممثلة في اللجنة النسائية لوكالة الشؤون الثقافية. كثيراً ما تعالت الأصوات التي تطالب مؤسسات التعليم بتأدية دورها في خدمة المجتمع من خلال الإسهام في صنع ثقافته وإعادة تشكيلها بما يتوافق وظروف المرحلة ومتطلبات العصر ووفقاً لقيم المجتمع، كونها يقع عليها الدور الرئيس، إلا أنه ليس مستقلاً عن مؤسسات المجتمع الأخرى المسؤولة هي أيضاً عن الثقافة الاجتماعية، فصحيحٌ أن وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي هما الحاضن الحقيقي للإنسان في مجتمعنا في مراحل طفولته ومراهقته وشبابه، ولكنهما لا تستطيعان أن تقررا شيئاً يخص اتجاهات الثقافة الاجتماعية ورسمها دون إسهام فعلي من مؤسسات المجتمع المهمة والأساسية، وإلا ستصبحان كالذي يسبح عكس التيار، فما يُبنى في المدرسة والجامعة قد يهدم في مكان آخر في المجتمع. إنه من الصعب فهم الثقافة بعيداً عن المجتمع واحتياجات أفراده، فالثقافة نشاط إنساني لا يوجد إلا في مجتمع، وهي ذلك الجزء المكتسب بالتعلم من سلوك الإنسان، كما أنها تعيد صياغة حاجات البشر، وهي ليست خصائص بيولوجية وإنما تمثل صفات اكتسبها الإنسان البالغ من مجتمعه عن طريق التعلم المنظم، أو الحركات والاستجابات الشرطية، أو الأنشطة والتفاعلات الاجتماعية، ويدخل في إطار ذلك المهارات الفنية المختلفة والنظم الاجتماعية، والمعتقدات وأنماط السلوك. إذا فشلت مؤسسات المجتمع في جذب أفراده للمعرفة والمهارة الحرة والمشاركة في تنمية المجتمع من خلال احساس الفرد بتنمية المجتمع لذاته واشباع حاجاته، فإن الضبط الاجتماعي والنظام والحقوق كلها جميعاً تصبح في مستوى متدنٍ، فمن خلال وظيفة المؤسسات التربوية والثقافية تكون التنشئة الاجتماعية التي يتعلم من خلالها الفرد كيف يصبح عضواً منتجاً، فبناء الثقافة أو التنشئة الثقافية يستمر من خلال دورة الحياة، وهي تأخذ أشكالاً متعددة رسمية وغير رسمية، وهذه التنشئة كما نجدها تختلف من بيئة مجتمعية إلى بيئة أخرى تختلف بالتالي من مؤسسة متبنية لها إلى مؤسسة أخرى، كذلك فإن عملية التنشئة هذه لا تمر دائماً كقضية سهلة نعتقد أنه بإمكان أي مؤسسة التصدي لها وتقديمها بما يخدم المجتمع وثقافته وظروفه الراهنة والمستقبلية، فهناك أسئلة مثل ماذا يتم تقديمه؟ لمن يكون التقديم؟ وكيف يتم التقديم وما ضمانة تحقيق الأهداف المعلنة دون تمرير أهداف أخرى مبطنة ومغرضة؟ إن الأنشطة الثقافية الحقيقية هي التي تؤمن بأن الإبداع يتبدى في أفكار خيالية أو على الأقل غير مألوفة، لا تفرض على الفرد أو يرسم طريقها مسبقاً من القائمين على هذه الأنشطة الذين لابد أن يكون لديهم حس بمثل هذه الأفكار التي قد تكون إرهاصات للإبداع بتشجيعها وفحصها وتقديم الدعم المعنوي أولاً لها قبل الدعم المادي. تقول ليندا جين شفرد مؤلفة كتاب Science» veil – the feminine face of « lifting the «الشعور يأتي العلم بطراز من البحث مدفوع بحب الطبيعة بدلاً من الرغبة في التحكم، الانبهار بجمال الطبيعة، الرغبة الإنسانية في الاتصال معها، الإحساس العاطفي بالعمل، الاستثارة بتعلم أشياء جديدة، الحبور برؤية نموذج ينبثق، الوجد في الاكتشاف، التلذذ بالبحث عن الحقيقة، الابتهاج بالعلاقات الإنسانية... حب الحياة والرغبة في إعمار الحياة مدفوعاً بشعور السعادة فيها... هذه المشاعر يمكن أن تلهم بالتحليل المنطقي «حلولاً» للمشكلات الاجتماعية التي يستعسر حلها بالطرق التقليدية». هذا الأمر يطرح تساؤلات عدة على طاولة مصممي ومنظمي ومنفذي الأنشطة اللا منهجية والصيفية التي تصدر عن مؤسسات التعليم والمؤسسات التربوية الأخرى؟ قد تتوافر بعض تلك الأسس اللازمة لوجود أنشطة ثقافية حقيقية وقد تتهيأ بالفعل لتلك الأنشطة إمكانات مادية وقدرات ومهارات بشرية ولكن «المناخ» الذي تعيشه هذه العناصر يحاصر ويخنق ويعرقل مما يصبح الأمر معه عسيراً على حرية الإبداع وبالتالي الإنتاج ومُخرج تلك الأنشطة. إن الروح التي يجب أن تحرك تلك الأنشطة وتدب فيها الحياة تقتضي أن تكون متوافقة لمقتضيات التنوع الثقافي الذي بات هدفاً وقصداً رئيساً لجميع المجتمعات على حد سواء، التراث الثقافي مهم للإنسان طالما كان صحيحاً وسليماً ويساير ظروف الزمان والمكان ويوافق مستحدثات العصر، لأن هذا التراث يقوم أساساً على مرتكزات قوية، أما إذا كان مضمونه مهلهلاً ويحتوي ثقوباً عدة ويدعو للتخلف ولا يحرك الإنسان ليفكر فيما يحدث حوله ويرفض الانفتاح على ثقافات الآخرين وتجاربهم لينهل منها متأثراً تأثراً إيجابياً بها ووفق قيمه ومؤثراً فيها في الوقت نفسه، فلن نتوقع من هذا التراث أن يسهم كثيراً في تثقيف المجتمع، وإذا حدث ذلك، فيكون في حدود ضيقة، لا تواكب العصر ومتطلبات وظروف المرحلة الوطنية. وبعامة، يمكنني القول إن نموذج الأنشطة التي تقوم على مجموعة من الندوات والمحاضرات السردية، وعن طريق مجموع من المسابقات والفعاليات المكررة والتسطيح ثقافة لن تسهم أبداً في تثقيف المجتمع ما لم يكن القائمون عليها مثقفين حقيقيين واعين لما يحدث، ومفكرين في قضايا المجتمع، قادرين على تثقيف الفئة المستهدفة بتلكم الأنشطة لا تنميطهم في نماذج مستنسخة ومتكررة تثقفهم بوعي وحكمة تتماشى مع مفاهيم التراث الخلوقة، وبما يؤكد التلاحم والتفاعل مع الثقافات المتباينة المعاصرة. هذا الاستبشار بهذا الحدث ووجود مثل هذه الفعالية الواقعية والحقيقية تدفعني لأخذ نفس عميق من خلال هذه النافذة، ويوم الغد هو الحفل الختامي لفعالياته حابسة أنفاسي، مؤملة إياها أن نجد هذا النموذج القائم حالياً في الرياض وجود نسخ منه في كل مناطق ومحافظات الوطن في العام المقبل، والعام المقبل لمتأمله قريب...! وأملنا في وزارة الثقافة والإعلام كبير. * باحثة في الشؤون الفكرية [email protected]