آخر كتب ميشال فارشافسكي، المناضل الإسرائيلي المناهض للصهيونية، رواية! وهو الذي افتتح طريق الكتابة المجابهة للمشروع الصهيوني من أصله، وليس فحسب للسياسة الإسرائيلية كما يفعل بجدارة عدد من ألمع كتاب وصحافيي إسرائيل، على رأسهم، وربما أكثرهم وضوحاً في المواقف وثباتاً، يوري افنيري. في السبعينات، أسس فارشافسكي - الذي كان ينتمي إلى منظمة «ماتزبن» اليسارية المناهضة للصهيونية - مع عدد من أصدقائه «مركز الإعلام البديل» في القدس، الذي لعب دوراً كبيراً في مقارعة الخطاب الإسرائيلي، مفككاً حججه بمناسبة كل الأحداث كبيرها وصغيرها. ونشأت من رحم المركز جماعات وحركات إسرائيلية مناضلة ضد الصهيونية، تبلور وعيها هناك، أو بالاتصال معه، وتمكنت من إسماع صوتها بفضله، آخرها كان المجموعة الشبابية «فوضويون ضد الجدار»، يتظاهرون مع الفلسطينيين كل أسبوع منذ أعوام في مواقع عديدة أشهرها قرى بلعين ونعلين. كتب فارشافسكي عدداً لا يحصى من المقالات وكُتباً منها «دولة ثنائية القومية» وهو يحمل تصور حل للواقع القائم، قد يكون انتقالياً، لكن أفقه فكرة الدولة الديموقراطية لكل مواطنيها، أي زوال إسرائيل ككيان استعماري/عنصري مع توفير إمكانية إدماج اليهود المقيمين فيها كمواطنين متساوين في الحقوق (وليس الرمي في البحر). وهي «تسوية» أفقها هي الأخرى قناعة الرجل بأن هؤلاء المهاجرين إلى فلسطين من بولندا وسواها، سينتهي بهم المطاف، أو يجب أن ينتهي بهم، يهوداً عرباً. وفي هذا، يغرف فارشافسكي ولا شك من تاريخ اليهود أنفسهم، ليس فحسب من تاريخ كان منهم أبناء أصيلون للعراق أو اليمن أو الشام، بل من كان ابن المغرب وجاء إلى أوروبا مع الفتح الإسلامي وغادرها عائداً إلى المغرب مع انهيار الأندلس. ومن بين عدد من كتبه، يبقى «على الحدود» كتابه الأكثر حميمية، إذ يستعرض فيه تشكّل وعيه هو بالقضية الفلسطينية وإدراكه، الذي بدأ مع 1967 وحربها، لبشاعة الكيان الذي يفترض به الانتماء إليه. مذاك، يقول فارشافسكي، حين يُطلب منه تقديم نفسه، إنه مقدسي. فهناك يسكن وهناك مركز المعلومات البديلة. وهذا هو التبرير الأبسط. ولكن الأعمق أن المدينة المثقلة بالقوة الرمزية الفريدة، تحتضن الهوية الثقافية والدينية للفلسطينيين، من المسلمين والمسيحيين العرب، ولسوى العرب من الأقليات مثل الأرمن وسواهم، ورابطها باليهود روحاني. وهي بهذا المعنى كون للجميع. والخلفية التعريفية هذه ضرورية لتقديم آخر كتب الرجل، الصادر بالفرنسية قبل أسابيع، بعنوان «مصائر متقاطعة، إسرائيليين - فلسطينيين، التاريخ متقاسَماً». يروي فيه ما يقول إنه قصة متخيلة، ولكنها تحوي تحت ردائها ذاك على تأريخ وقائعي دقيق. والدقة هنا لا تكتفي بإيراد ما جرى من أحداث، كبيرها وصغيرها، بل تنقلها بتشابكها وتعقيد زوايا النظر إليها، وهي صعوبة يقر بها كل المؤرخين. ثم يصاحب التأريخ تقديم للمرتكزات الاجتماعية لأشخاص الرواية، وهم أفراد عائلتين، واحدة فلسطينية وأخرى يهودية بولندية. يرافقهما الكاتب منذ مطلع القرن العشرين وحتى يومنا هذا، راوياً سيرة ثلاثة أجيال، متتبعاً تفاصيل حيواتهم الشخصية، ومقدماً في الوقت نفسه مناخات بيئتهم المحيطة، وواقعهم الطبقي، وتطور وعيهم. وهذه نقطة جديرة بالتوقف. فالكاتب يقوم بتسجيل الوعي العام السائد على امتداد قرن في أماكن حياة أبطاله هؤلاء، وأيضاً وعيهم الخاص. وهي فرصة لينقل لنا تلاوين اللوحة السياسية لأفكار وحركات وأحزاب تبدأ مع نشوء ال»بوند» في بولندا موطن العائلة اليهودية، وتمر بنشوء الصهيونية مع تيودور هرتزل، وتسجل بالتوازي النقاشات حول «الحركة العربية» ومخططات الإنكليز ضد السلطنة العثمانية... لتصل في منتصف الرواية إلى النكبة ثم منظمة التحرير والانتفاضتين واتفاقيات أوسلو، لينتهي الكتاب بقصة موت راشيل أثناء تصديها لبلدوزر إسرائيلي يتقدم لهدم بيت فلسطيني. والقصة تستعيد واقعة مقتل راشيل كوري الشابة الأميركية المناضلة في قطاع غزة. ولكنه ينقلها هنا إلى الضفة الغربية، وتحديداً إلى قرية بلعين التي تقاوم بناء الجدار، والى عام 2009، ويحمّلها اسم عائلة مختلفاً، هو «طومسون»، لتصبح حفيدة الشاب الذي قابلناه في بداية الرواية، سلمون فريدمان، ابن العائلة اليهودية رفيقتنا على امتداد قرن، وكان في بداية الرواية يعمل في مصنع الأحذية في لودز في بولندا، ويحلم بالهجرة إلى الولاياتالمتحدة. الكتاب في الأصل معد ليروي المسألة الفلسطينية لطلاب السنوات النهائية من الدراسة الثانوية في فرنسا، من ضمن مقررهم المدرسي. هكذا كان المشروع بداية وتكليفاً. ولكن الكاتب عدل المخطوط ليحوله إلى كتاب تعريفي لقراء عاديين، يعرفون القليل عن الموضوع، ويعرفون هذا القليل مرتبكاً، تقريبياً ومليئاً بالمغالطات الشائعة والأفكار المسبقة. وميزته الكبرى، عدا كل ما سبق، أنه يروي هذا التاريخ بقدر هائل من الاحترام والحب. ومن الصدق أيضاً. يتعاطف مع الفلسطينيين بوضوح، ولكنه يقدم أدوات فهم دوافع الأفراد اليهود الذين أصبح بعضهم إسرائيلياً. ويدين من يراه واجب الإدانة بلا لبس. والتمييز بين الفردي والعام في غاية الأهمية، لأن السيرورات كما المصائر الفردية التي تنتمي ولادةً للجهة المدانة سياسياً، يمكن أن تكون مأسوية. بهذا المعنى، فالكتاب على وضوحه في الموقف السياسي لا يتخلى ولا مرة عن تلك المقاربة الإنسانية. وها هو موقف قيمي بالغ الثراء، وهو ربما الذي حمل مقدم الكتاب أبراهام بورغ، الرئيس السابق للكنيست الإسرائيلي والذي بات نقدياً للغاية حيال سياسات إسرائيل، إلى القول إنه كتاب متفائل حيال الطبيعة البشرية. هل سيترجم الكتاب الى العربية فيصبح في متناول قراء يحتاجون الى الاطلاع على هذا التاريخ المتقاطع، على تاريخهم هم أنفسهم كعرب، وهم قد يعرفونه بهذا المقدار أو ذاك، وعلى تكوين ما صنع تاريخ أعدائهم، ليس حباً بالمعرفة فحسب، خلفيات وجذوراً وتنوعاً هائلاً، وإنما لإدراك مقدار الاستمرارية في ما نعيشه مع أمسٍ يبدو بعيداً ولكنه ما زال حاضراً وبقوة.