يتمدد أحدهم خارج حدود متجره، ويفرش بضاعته على الرصيف المواجه، تتضرر، فيقول لك متحدياً: «رصيف الحكومة»! يوقف أحدهم سيارته في عرض الطريق، تعترض، فيرد عليك مواجهاً: «شارع الحكومة»! يمعن أحدهم في تهشيم مقعد الباص، تمنعه، فيجابهك منتشياً: «أوتوبيس الحكومة»! يلقي أحدهم بقمامته في حديقة عامة، توبخه، فيعنفك مؤكداً: «جنينة الحكومة»! منظومة أملاك الحكومة ألقت بظلالها في مصر أخيراً على شاشات الحكومة أيضاً. فبعد أشهر طويلة من الشد والجذب حول تطهير الإعلام الحكومي تارة، وإعادة هيكلته تارة أخرى، وبعد عشرات الائتلافات الإعلامية، ومئات المبادرات للتطهير الذاتي، انتظر الجميع أن يخرج تلفزيون الحكومة عليهم بنوعية غير مسبوقة من العمل الإعلامي، وذلك بعدما تحررت الكفاءات، وتفجرت المواهب، وزالت الأغلال! لكن ليس كل ما يتمناه المشاهد يشاهده، فقد مرت الشهور وشاشة تلفزيون الحكومة تسير من سيئ إلى أسوأ، فمِن تخبط وضبابية في الرؤية في البداية، إلى تفرغ لحروب داخلية ومشاحنات شخصية، وأخيراً إلى إطلاق عدد ضخم من المذيعين والمذيعات، مذيلين بجيوش من المعدّين والمخرجين والفنيين، يقدمون برامج لا أول لها أو آخر، بغية منافسة المنتج في القنوات الخاصة. لكنّ ما يجول في أروقة تلفزيون الحكومة وكواليسه، انعكس في شكل فج على الشاشة، وإذ بالمشاهد الذي يتوق شوقاً ليرى منتجاً إعلامياً متفرداً في زمن ما بعد الثورة، يجد نفسه بالفعل أمام منتج متفرد، ولكن في الاتجاه المعاكس. تحولت شاشة الحكومة، بعد كثير من المشاحنات الداخلية، بين فرق وجماعات من أبناء التلفزيون تصفي حسابات شخصية تارة، معتقدة أن كل من كان مهمشاً في ظل النظام السابق لا بد له من احتلال مكان الصدارة على الشاشة، بغض النظر عن أحقيته من عدمها، وقلاقل خارجية تارة أخرى تتربص بكل ما يخرج عن هذه الشاشة، ناعتة إياها بالكاذبة والمضللة والمداهنة للسلطة الحاكمة. ومع تغيير قيادات التلفزيون الحكومي مرات كقطع الشطرنج، استجابة لهذه الوقفة أو إرضاء لتلك الجبهة، تعددت الرؤى، وربما انعدمت، وتشتتت الجهود، وربما أهدرت، وتقلصت أحلام إعادة الهيكلة، أو ربما تبخرت. ويحاول المشاهد بين الحين والآخر العودة بالريموت إلى شاشة الحكومة، لعله يُصادف جديداً، فتباغته برامج مستنسخة، مع تغير الوجوه وكثرتها إلى درجة تجعلها كلها متشابهة. وبدقات ثقيلة يخنقها الأسى، يدق المشاهد على الريموت مبتعداً عن شاشة الحكومة عائداً مضطراً إلى شاشات أخرى نجحت بإمكانات أدنى قدرة، وإعلاميين أقل عدداً، وسنوات أصغر عمراً، في أن تقدم مادة إعلامية يعتد بها. صحيح أن أصابع المشاهد ستنقله رغماً عنه بين الحين والآخر إلى شاشة الحكومة، لكنها ستكون على فترات أبعد، وبدقات أثقل. لكنّ ما يحز في نفس المشاهد هو هذا الشعور الذي تبثه شاشة الحكومة في كل مرة يجد نفسه موجهاً اللوم إلى من يقف خلفها في مستواها المتدني هذا، فإذ بصوت يصيح في الأثير مدافعاً عن الرداءة مبرراً إياها بأعلى صوته: «شاشة الحكومة»!