في وقت يتحدث فيه الجميع ولا أحد يستمع، وفي ظروف يتظاهر فيها الكل ولا أحد يعمل، يبدو الحديث عن المناظرات والموائد المستديرة والورش التفاعلية أقرب ما يكون الى التحليق خارج السرب. تيم سباستيان، الإعلامي البريطاني المخضرم، سطع نجمه في مجال «المناظرات»، ليس كمحاور بارع فحسب، وإنما كمدرب على هذا الفن والأسلوب في المواجهة. وفي القاهرة، حيث المشهد الشبابي أقرب الى المناطحة منه الى المناظرة، التقى سباستيان على مدى يومين مجموعاتٍ من الشباب، منهم الناشط سياسياً، ومنهم الناشط أهلياً، ومنهم مجردُ راغب في الاطلاع على فن المناظرة، من خلال برنامج «صوت الشباب العربي» المقام بالتعاون بين المعهد البريطاني ومؤسسة «آنا ليند». «الشباب يتحدثون الآن وصوتهم عال، وعلى رغم ذلك، صوتهم غير مسموع، وهذا يعني أن هناك حلقة مفقودة. إنها حلقة تعلم كيفية جعل صوتك مسموعاً وليس عالياً». هكذا لخص سباستيان الوضع الراهن، فكان لوقع لكلماته على الشباب الملتف حوله، وعلى رغم ضلوع كثيرين منهم في فعاليات ثورية، مفعول السحر. تحدث سباستيان عن أهم إنجازات الثورة الشبابية التي أفرزت وجوهاً سياسية جديدة تؤكد أنها الأدرى بمستقبل مصر. لكن هل من سبيل إلى التأكد من صدق ما يقولون، وجدوى ما يؤمنون به؟ «عليكم أن تكونوا قادرين على اختبارهم والتأكد من صدقهم وصدقيتهم. وعلى رغم أن قلة قليلة جداً من الساسة يتفوهون بالحقيقة، ولكنها مهمة الجميع، لا سيما الشباب، معرفة أن الحقيقة ليست مجرد حق، بل هي واجب، لأن لعبة الحياة تختلف عن كرة القدم، فلا تستقيم الأمور بالاكتفاء بالمشاهدة». سباستيان بالتأكيد لم يقصد أن ينزل الجمهور أرض الملعب –كما حدث في مجزرة بور سعيد-. وانما يقصد المشاركة بمعرفة قواعد اللعبة، والقدرة على التحكيم. وفي حال كانت اللعبة مزرية، فعلى الجميع أن يجاهر بذلك. لكن لهذه المجاهرة أصولاً، «لاحظت أن كثيرين من الشباب يجاهرون بما يشعرون به، ولكنها مجاهرة غير مبنية على قواعد، والقواعد هنا هي الحقائق والمعلومات». المهم إذاً من المجاهرة هو أن يجمع الشباب المعلومات والأدلة التي تعضد وجهة نظرهم، لمواجهة الآخرين بها، وإلا تحولت إلى سفسطة. والسفسطة كما بدا من التدريب الذي شهده معهد السينما في القاهرة قبل أيام، ليست في الكلام المرسل فقط، بل في في الأسئلة السخيفة. «اسأل سؤالاً سخيفاً وكل ما ستحصل عليه هو إجابة أكثر سخافة. كذلك لا تسأل أبداً سؤالاً إجابته إما نعم أو لا. ولا ترضى بالفتات لو لم تشف الإجابةُ غليلَك، لا تستسلم، بل استمر في السؤال وسرد الحقائق. يبدو الأمر متعباً ومضنياً، لكن النتيجة مرضية». يعرف الشباب تماماً أن النتيجة –في حال الوصول إليها– مرضية جداً، لكن هناك مشكلة كبيرة أيضاً، ألا وهي شعور الكثيرين منهم بأن نظام التعليم الذي يخضعون له، وطريقة التربية والتنشئة السائدة في البيوت المصرية تعتبر مناقشة السلطة (الأهل أو المعلم) من قبيل «قلة الأدب». يرد سباستيان بأن ذلك يتغير، وأبرز مثال قيام الثورة المصرية. وعلى ذكر الثورة المصرية، سأل سباستيان الشباب: «لماذأ أمضيتم العام الماضي كله في الكلام، وكانت النتيجة أن لا صوت لكم في البرلمان؟». وألحق سؤاله بآخر: «كنتم في أمسّ الحاجة لوجود أكبر عدد ممكن من النساء في البرلمان، لكنكم أخفقتم في ذلك أيضاً، لماذا؟». ولأن إجابات الأسئلة التي طرحها سباستيان تحتاج إلى عشرات المناظرات والمراجعات، اختتم ورشته بالتأكيد أن «المشكلة الحقيقية تكمن في القدرة على الاستماع، لأن الجميع قادر على التحدث».