في تركيا قناعة سائدة بعدم امكان محاكمة الانقلابيين العسكريين، فهؤلاء إذ يستولون على الحكم يضعون قانون المرحلة الجديدة ولا يطاولهم القانون القديم، لكن الوحيد الذي تمكن محاكمته هو الانقلابي الفاشل الذي يخفق في تحقيق الانقلاب او يضبط وهو يخطط له. هذا ما حدث مع الضابط طلعت اي دمير الذي اعدم عام 1964 بتهمة التخطيط لقلب نظام الحكم، على رغم أن الانقلابيين الذين استولوا على الحكم عام 1960 وأعدموا رئيس الوزراء عدنان مندريس لم تطاولهم يد العدالة، لأنهم سطّروا دستوراً جديداً وأعطوا أنفسهم الحصانة من أي محاسبة او مساءلة، لكن ذنب اي دمير انه كشف قبل ان يتم فعلته ليدخل التاريخ، كونه العسكري الوحيد في تركيا الذي أُعدم بتهمة التحضير لانقلاب. وفي تركيا اليوم قصة مشابهة لقصة أي دمير، مع بعض الاختلافات في الظروف وسير الاحداث ترزح تركيا منذ حوالى عام ونصف عام تحت وطأة محاكمة التنظيم الانقلابي المسمى «أرغاناكون» والمتهم بالتخطيط لانقلاب عسكري من خلال اثارة اعمال عنف وشغب وقتل وتفجير لدفع الجيش الى استلام زمام الامور وإطاحة حكومة رجب طيب اردوغان، وفيما يتابع الاتراك والعالم معهم تفاصيل هذه المحاكمة الماراثونية والمتهمين الثمانين الذين من بينهم جنرالات متقاعدون وضباط عاملون ورؤساء جامعات وصحافيون ورجال اعمال، فوجئ الجميع بالكشف عما يقال إنه مخطط انقلابي جديد وضع في نيسان (ابريل) الماضي، يهدف الى القضاء على جماعة اسلامية هي الاوسع نفوذاً في تركيا واطاحة الحكومة في ضربة واحدة، تحت مسمى «مخطط القضاء على جماعة فتح الله غولان – احد فروع جماعات النورسين في تركيا – وحكومة رجب طيب اردوغان». ويقضي المخطط المزعوم بإخفاء اسلحة في مراكز تلك الجماعة وضبطها لاحقاً من خلال التفتيش والمداهمة بهدف توجيه تهمة الارهاب الى الجماعة ومؤسساتها، وفي الوقت نفسه اثبات ارتباط عضوي بين الجماعة وحكومة «العدالة والتنمية»، كل ذلك مصحوباً بدعايات اعلامية بالتعاون مع وسائل الاعلام المقربة من الجيش والمعادية للحكومة من أجل تشويه سمعة اردوغان ووزرائه وإقناع الرأي العام بأن حكومة «العدالة والتنمية» ما هي الا ستار لجماعة دينية ارهابية. بدت تفاصيل الخطة محبوكة بدقة ومثيرة للقلق في الوقت نفسه، وهو ما أثار غضب الحكومة، فتوعد اردوغان بملاحقة قانونية لواضع الخطة والمتعاونين معه، خصوصاً أن الخطة تحمل توقيع شخص معروف وله سوابق في هذه الميول، وهو الضابط دورسون تشيشيك صاحب التقرير الشهير الذي تسرب الى وسائل الاعلام قبل عامين والذي يتضمن حصراً لكل وسائل الاعلام ومؤسسات المجتمع المدني المحلية والاجنبية في تركيا، ويصنفها بين صديق للجيش ومتعاون معه وبين عدو متعاون مع الحكومة، ويتضمن ذلك التقرير اسماء المئات من الصحافيين ووجوه المجتمع والسياسيين ضمن ذلك التصنيف، في شكل فج ومحرج للبعض الذين وصفوا بأنهم اصدقاء للجيش ومتعاونون معه. كما يتضمن التقرير بعض النصائح في شأن دعم مكانة المتعاونين مع الجيش وشن حرب نفسية وإعلامية ضد الاعداء او غير المتعاونين. وقد اعترف قائد الاركان السابق الجنرال يشار بيوك انيط بذلك التقرير، لكنه اكتفى بالتعليق قائلاً إنه تقرير داخلي لم يوضع محل تنفيذ، وبالتالي لم يكن هناك من داع لمحاكمة الضابط تشيشيك كاتب التقرير لأنه نفذ ما أمر به. لكن التقرير الجديد الذي ينسب الى تشيشيك يحتوي على خطة واضحة لانقلاب عسكري في حلة مدنية، ويدعو الى اطاحة الحكومة، لذا فهو اخطر ويقع تحت طائلة المحاكمة. ومنذ اليوم الاول تبرأ قائد الاركان الحالي الجنرال الكر باشبوغ من التقرير وأمر بتحقيق عسكري مع الضابط تشيشيك الذي أنكر صلته بالتقرير جملة وتفصيلاً، وخلال اقل من اسبوع اعلنت المحكمة العسكرية ان لا دليل على أن تشيشيك هو صاحب المخطط، وأن الوثيقة التي كشفت هي صورة لم يعثر على اصلها وتحتمل التزوير، وبالتالي فإن صور الوثائق لا يمكن أن ترقى الى مرتبة الدليل. وأغلق التحقيق بعد تأكيد انتفاء اي دليل قانوني على وجود مخطط انقلابي. فخرج قائد الاركان الجنرال باشبوغ امام عدسات الكاميرات ليجدد نفي اي مخطط انقلابي ويؤكد أنه سيكون الضامن الاكبر لعدم حصول اي انقلاب ولن يتهاون مع أي ضابط يفكر في هذا التوجه، وجدد وعده الذي قدمه قبل ثلاثة اشهر بأن عهد الانقلابات العسكرية قد انتهى وأن الجيش ملتزم الديموقراطية. واتهم جماعة فتح الله غولان من دون ان يسميها بتقديم وثائق مزورة الى الاعلام وشن حملة لتشويه سمعة الجيش واتهامه بالسعي من دون كلل الى الانقلاب على حكومة اردوغان، واعتبر أن الأمر وصل حداً لا يمكن السكوت عليه، فقرر أن ينقل هذا الأمر الى اجتماع مجلس الأمن القومي الدوري، حيث اعتبر أن هناك حرباً بين الجيش وتلك الجماعة وقودها الاعلام وحملات التشهير والتزييف. لكن كل هذه البيانات لم تقنع اردوغان الذي يعتبر الوثائق التي كشفت صحيحة، على رغم انها صور يمكن أن تكون من صنع خبير كومبيوتر، فلجأ اردوغان الى البرلمان لتعديل قانون يفسح المجال للمحاكم المدنية بمحاكمة العسكريين، وهي اشارة واضحة الى عدم ثقة الحكومة بالمحاكم العسكرية التي يفتقر سجلها الى أحكام جدية او حازمة ضد من اتهم من الضباط سابقاً بأي جريمة. وأثار التعديل سخط القيادة العسكرية، وتجسد الجدل في استدعاء المحكمة المدنية الضابط تشيشيك الذي ينسب اليه المخطط المزعوم للتحقيق معه ولتأمر المحكمة المناوبة بحبسه على ذمة التحقيق قبل ان تفرج عنه المحكمة المختصة في شكل مفاجئ بعد أقل من اربع وعشرين ساعة لعدم كفاية الادلة، وهو الامر الذي اثار لغطاً حول احتمال تدخل الجيش للإفراج عن ابنه البار الذي يعتقد بأنه بريء. والعيون كلها تتجه الآن نحو القصر الجمهوري والرئيس عبدالله غول الذي سيقرر ما اذا كان سيصادق على تعديل قانون المحاكم المدنية والعسكرية، أم انه سيعترض عليه نزولاً عند رغبة الجيش. بين الماضي والحاضر والحقيقة أن الغالبية في تركيا لا تشكك في نيات قائد الاركان الجديد الجنرال الكر باشبوغ الذي يعتبر من القيادات العسكرية الاصلاحية والحريصة على انهاء ملف الانقلابات العسكرية، لكن الشبهة تدور حول وجود خلية من الجنرالات تسير على نهج اسلافها الذين خططوا لانقلابات عسكرية، ثلاثة منها كانت مباشرة وواضحة (1960 و1971 و1980)، ورابعها جاء في حلة مدنية عند اطاحة رئيس الوزراء الاسلامي نجم الدين اربكان عام 1997، وثلاث خطط انقلابية لم تر النور بين عامي 2002 و2004 يتم التحقيق في شأنها من خلال قضية ارغاناكون الماراثونية. وتبدو جهود الجنرال باشبوغ صعبة للغاية لتغيير الصورة لدى الحكومة والرأي العام عن جيشه لأسباب عدة أولها ذلك التاريخ الطويل من الانقلابات والتدخل السافر في الشؤون السياسية. وثانياً الثقافة العامة السائدة في تركيا حول اهمية دور الجيش والمؤسسة العسكرية وكون الجيش مؤسس الجمهورية التركية الحديثة وصاحبها، وهذا قول شائع فيه ظلم لجميع الذين قاتلوا في حرب التحرير من المواطنين الاتراك والعرب والاكراد وغيرهم داخل تركيا، لكن هذه القناعة السائدة تعتمد على حقيقة ان الجنرالات هم الذين خاضوا معركة اتفاقية لوزان الديبلوماسية التي ادت الى الاعتراف الدولي بقيام جمهورية تركيا بحدودها القائمة حالياً - عدا لواء الاسكندرون الذي ضم الى تركيا عام 1939 - والجنرالات هم ايضاً من جاء بفكرة الجمهورية والنظام العلماني والتوجه الى الغرب وانهاء النظام الاقطاعي وغيرها من مبادئ اتاتورك الثورية. ولعقود بقي التدخل العسكري في شؤون السياسة في تركيا مبرراً شعبياً بسبب فساد بعض السياسيين وضيق افقهم، اذ بقيت المؤسسة العسكرية هي الحامي الوحيد للنظام اثناء انشغال السياسيين بخلافاتهم الضيقة. وثالثاً، وهو الأهم، مناهج الكليات العسكرية التي تخرج الجنرالات وقيادات الجيش والتي تؤكد دور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية وتعتبره امراً طبيعياً غير خاضع للنقاش، وتؤكد أن السياسيين لا يمكن الوثوق بهم دائماً في المسائل التي تتعلق بالأمن القومي لأنهم معرضون لاختراق من القوى الخارجية أو للخضوع الى رغباتهم ومصالحهم الضيقة، وأن الجيش يبقى صمام الأمان الأهم في تركيا لانقاذ البلاد من أية ضائقة، وبالتالي فإن اجيالاً من القيادات العسكرية تتربى على هذه الافكار وتتشبع بها. رابعاً واخيراً، الابقاء في الدستور والقوانين التركية على نوافذ قانونية لتدخل الجيش في السياسة ووضع خطط لهندسة وتنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية للشعب، ومن اهم تلك النوافذ القانونية مجلس الأمن القومي الذي شكله وكرسه الانقلابيون عام 1982 ويفسح في المجال للجيش للتدخل في كل ما يعرض من قضايا تهم أمن تركيا الداخلي والخارجي، والاهم والاخطر هو قانون الخدمة الداخلي الذي يعرف مهمة الجيش ووظيفته بأنها حماية وصيانة الجمهورية التركية من اي خطر كان. وتحت هذا البند تنبثق مؤسسات عسكرية قانونية ومجالس بحث ومراكز دراسات واستخبارات مهمتها التدخل في شؤون الدولة، ومن بينها مثلاً لجنة العمل للتوجه نحو الغرب التي قدمت تقريراً عن تزايد «الخطر الديني» في تركيا اثناء حكومة نجم الدين اربكان بحسب مصادر الجيش الاستخبارية التي احصت عدد المدارس الدينية وأحاطت بنشاطها وتابعت فعاليات الجماعات الدينية ومصادر تمويلها، كل ذلك في غفلة وسرية وبعيداً من عين الحكومة. وقدمت اللجنة تقريراً يتضمن خطة لازالة هذا الخطر تحولت الى توصيات تبناها مجلس الأمن القومي حينها وطبقتها الحكومة. وامتدت هذه القرارات، من منع ارتداء الحجاب في الجامعات الى إلغاء شهادات جامعة الازهر المصرية وعدم الاعتراف بها، وفصل المئات من موظفي الدولة من اعمالهم بتهمة الرجعية، اضافة الى تصفية مؤسسات مالية واقتصادية اسلامية كبيرة تحت الحجة نفسها وفرض حظر على عدد من الصحافيين، وفي النهاية حل حزب الرفاه الاسلامي بقرار المحكمة الدستورية العليا. ووفقاً لهذه اللجان القائمة والفاعلة داخل المؤسسة العسكرية، فإن الإعداد لانقلاب مدني ضد حكومة قائمة قد لا يدخل – وفق العقلية العسكرية القائمة – دائرة المحظور او الجريمة التي يحاسب عليها القانون، بل لعله واجب ينص عليه قانون الخدمة الداخلية لحماية النظام طالما ان الخطط الموضوعه لا تلجأ الى دفع الدبابات الى الشارع، فنجاح انقلاب عام 1997 ضد نجم الدين اربكان من دون محاكمة المسؤولين عنه او حتى المطالبة بذلك من الاوساط السياسية والنظر الى ذلك الانقلاب على انه مخاض سياسي طبيعي، هو أمر يشجع العسكر الذين لا يثقون بحكومة رجب طيب ارضوغان لتكرار المحاولة في صمت بالوسائل المتاحة طالما توافرت لهم الحصانة من خلال الحيلولة قانونياً دون عرضهم على المحاكم المدنية إن كشفت مخططاتهم، فيما المحاكم العسكرية ستتفهم انهم كانوا يجتهدون ضمن قانون الخدمة الداخلي الذي تتجنب كل الحكومات المساس به او تعديل مواده. وعليه، فإن ما تعتبره الاوساط المدنية في تركيا تدخلاً عسكرياً في شؤون السياسة يمكن ان يكون من صميم واجبات المؤسسة العسكرية كما تشير القوانين التركية والعقلية العسكرية القائمة. النقاط المشار اليها تجعل مهمة قائد الأركان الحالي صعبة في ضبط صفوف جيشه وتحسين سمعته، على رغم اشارته بوضوح في اكثر من مناسبة الى نزعته للتغيير والتزام الديموقراطية. وخلال الجدل الحاصل فإن العلاقة بين قائد الاركان وكل من الرئيس عبدالله غول ورئيس الوزراء رجب طيب اردوغان جيدة وعلى درجة كافية من المسؤولية والوعي تسمح بجلسات مصارحة ومكاشفة مباشرة من دون تردد، فالخلاف اليوم ليس بين قائد للجيش وحكومة تتهم بأنها اسلامية، كما حدث سابقاً مع اربكان، لكن السجال اليوم يتم بالنيابة عن الطرفين من خلال قيادات الصف الثاني والثالث. ففي الجيش التركي قيادات قوية مؤثرة تنظر الى قائد الاركان على انه سيحال بعد عام على التقاعد وليس من حقه اتخاذ قرارات حاسمة في شأن مستقبل الجيش، وقد لا تتفق مع توجهاته. في المقابل، فإن كثيراً من المؤشرات تؤكد ان جماعة فتح الله غولان الاسلامية اكتسبت قوة ونفوذاً كبيرين خلال حكم حزب العدالة والتنمية، حيث انتشر رجالها في بعض مناصب الدولة المهمة والحساسة خصوصاً في الامن والاستخبارات والاعلام بل في الجيش ايضاً، وعلى رغم أن حكومة اردوغان تتفق مع هذه الجماعة على ضرورة ترويض الجيش ووضعه تحت سيطرة المدنيين، الا ان الحكومة تفضل انجاز ذلك بالتدريج وباستخدام الديموقراطية وقوانين الاتحاد الاوروبي وإصلاحاته، فيما تبدو جماعة غولان متحفزة اكثر لهذه المهمة بدافع الانتقام من الجيش، ولا توفر جهداً لاستفزازه أو الضغط عليه ومحاصرته بحملات اعلامية متعاقبة، وهي تبدو مقتنعة بأن اسلوب الحكومة لن يأتي بنتيجة وانما سيكسب الانقلابيين المزيد من الوقت ويتيح الفرص امامهم للعمل من جديد على اطاحة الحكومة أو عرقلة برامجها، وذلك بالنظر الى تجربة فرض قانون لم ينفذ حتى اليوم لوضع موازنة الجيش تحت رقابة المحاسبة المدنية، فذاك كان من اهم اصلاحات الاتحاد الاوروبي التي اقرها البرلمان عام 2005 من دون ان يتمكن أحد حتى اليوم من تنفيذ ذلك القرار. وبالتالي فإن السجال الحاصل اليوم من أجل اخضاع الجيش لحكم مدني يدور في شكل اكبر بين عناصر هذه الجماعة الاسلامية النافذة التي يحتاج اردوغان الى اقامة توازنات معها نظراً الى سيطرتها على كتلة انتخابية كبيرة ولإيمانه بوجود انقلابيين داخل الجيش لا يمكن تصفيتهم بالمحاكم العسكرية فقط، وبين قيادات الصف الثاني في الجيش التركي، وهو سجال يدفع الكثيرين في تركيا للمطالبة بحوار اكثر جرأة بين قائد الاركان ورئيس الحكومة طالما أن الخلاف لم يفسد الود الذي بينهما والذي تعزز بفضل اتفاقهم على سياسة موحدة للتعامل مع القضية الكردية، حوار يتطرق بجرأة الى دور الجماعات الاسلامية حالياً في المجتمع والى قوانين الجيش في آن واحد، خصوصاً أن السجال – الذي لا يبدو في الافق القريب منتهياً - بدأ يأخذ طابعاً اكثر حدة ويميل اكثر الى الانتقام والتشهير، وبدأ يستنزف قوة الحكومة والجيش ويأكل من سمعة تركيا. * صحافي عربي مقيم في تركيا.