تكمن مشكلتنا - نحن معشر السودانيين - في العلة التي تعاني منها الشخصية السودانية. صحيح أن فيها خيراً كثيراً، والحمد لله. وفيها من الخصال والخصائص ما يؤهلها للبقاء في مصاف الأمم الناجحة، والشعوب الراقية. بيد أن فيها من العيوب الكثير. ولو لم نلتفت لتلك المآخذ لن نجد للتقدم سبيلاً. وخير لنا إن أردنا البحث في ذلك أن يتم التشخيص والنقاش في الهواء الطلق. ومما يؤسف له أن ثمة سودانيين يرون المساس بتلك الجوانب إساءة للوطن وإنسانه. كنت قبل أيام في أحد أسواق الرياض حين تعرف إليّ أحد العاملين من الجنسية السودانية، فأخجلني بكرمه وحرصه على حسن تضييفي في محله. لكنه فاجأني بقوله إنه لن يغفر لي ما أكتبه في الشأن السوداني، ليس لأنه معارض لما أقول، ولكن لأنني أنشر غسيلاً سودانياً في صحيفة عربية ودولية سياّرة. ولو أني نشرت ما أكتب في صحيفة تصدر في العاصمة السودانية لكان ذلك أكثر صوناً لشرف السودان وأسراره! وصدف مراراً أن التقيت سودانيين ذكروا أنهم عرفوني من كُثْر حديث أحد زملائهم الذي يدعي أنني من أعز أصدقائه. وحين يرفدونني باسمه أكتشف أني لم أشْرُفُ بمعرفته قط! أعتقد بأن من أكبر عيوب شخصيتنا أن الحزبية السياسية والطائفية زرعت فينا عدم الثقة بعضنا ببعض، حتى غدونا جميعاً نبحث عن مصالحنا الشخصية والحزبية الضيقة، غير عابئين بالآخرين، وبالسودان وتقدمه ورفاهيته. وإذا أضفنا إلى ذلك بغضاء الحسد، فسيكون بوسعنا أن نتلمس السبيل إلى علاج لأدواء شخصيتنا التي تعوق بلادنا من الوصول إلى نهضة هي بها جديرة منذ مغادرة الحكم البريطاني لها في شتاء 1956. وأحياناً كثيرة أتلقى اتصالات من أصدقاء ومعارف يتفضلون عليّ بنصائح في شأن ما يتعين أن أكتبه، والأسلوب الذي يجب أن أصف به الأشياء والأشخاص والسياسات. وعلَّمني كُثْرُ تلك الاتصالات فضيلة الإصغاء وألاّ أفصح عن عزوفي حيال ما تأتي به تلك الاتصالات من نصح. أمَّا سيل شتائم من لا تعجبهم اتجاهات مقالاتي، فقد اعتدت مقابلته بدم بارد مهما كانت شدة قسوتها وفحشها وتجنيها، خصوصاً من جانب من يؤيدون نظام المحفل الخماسي الذي يستأثر بحكم السودان منذ 23 عاماً باسم الإسلام المُسَيَّس. فهذا طَبْعُهُم، وزادوه بتطبعُّهم على سيئ القول ومُقْذِعِه الذي ينطلق ليل نهاِر من ألسن أقطاب ذلك المحفل. وكلما جاءتني رسالة أو اتصال من أولئك ازددت يقيناً بأن رسالتي وصلت إلى مقصدها، وأن ما أردت قوله لا يمكن لعاقل أن يخطئ فهمه أو تفسيره. وحدهم الذين في قلوبهم مرضٌ هم الذين يُشْكِل عليهم مقالي. بيد أن أغرب نصيحة «ومعها سيل من الشتائم»، تلقيتها الأسبوع الماضي من القارئ بابكر عثمان أحمد، الذي حدثني في مستهل رسالته عن أنه يخطو صوب ال60 من عمره، وأنه انتمى في بُكْرَة صباه إلى الحزب الاتحادي الديموقراطي، «لا حباً فيه ولا إيماناً بأهدافه، ولكن إتباعاً للوالدين اللذين يمكن ان يهوِّدا ابنهما أو يمجساه». وبعد سرد وجيز لعورات الأنظمة التي تعاقبت على حكم السودان بعد استقلاله، يتفق معي «في بعض ما أشرت إليه من سوء في «الإنقاذ»". لكنه يطالب ب"أن نكون عادلين في أحكامنا ورؤانا للإنقاذ. أليست للإنقاذ أي إيجابيات تذكر؟»، ويخلص القارئ المذكور إلى القول: «أعتقدُ أننا لو عددنا الإنجازات في عهد الإنقاذ لملأتْ صفحات الصحيفة التي تدفع لك». ومع أن القارئ استهل رسالته بالقول: «قرأت لك مقالات عدة إن لم يكن كلها»، إلا أنه اختار أن يختم بالقول: «أما نصيحتي لك «أخ معاوية»: لا تتوهم أن كتاباتك ذات مغزى أو ذات مفعول، فقد اطلعت عليها كلَّها أو جلَّها، فهي لم تختلف قطّ في شكلها ولا مضمونها، عبارة فقط عن سب وشتم واستحقار واستخفاف وإسفاف في القول، لم تنتقد نقداً بانياً ولم تذكر حسنة لهؤلاء القوم»، ويصل إلى الذروة التي ربما كانت الغرض الأساسي من الرسالة بقوله: «إن كنت فعلاً مخلصاً لوطنك وأهلك أرجو أن تعي الدروس وتبيع للحكومة فهي أولى»! إذن هذه هي النصيحة - بعد ذلك السيل من السباب والأوصاف المقذعة - أن أعود إلى السودان لأبيع ضميري وقلمي وعقلي لحكومة المحفل الخماسي التي اشترت من الذمم أسياداً ورعاعاً وما وسعها أن ترقع فتوق ثوبها البالي. ومن أسف أن قلة من السودانيين ينظرون إلى العلاقة بين الحاكم والصحافي كأنها بيع وشراء ومهاودة! إنها نظرة تكاد تقتصر على أعين أعضاء الأحزاب الحاكمة في الأنظمة الشمولية. فما دامت أنظمتهم قادرة على سرقة الحكم في وضح النهار، ومصادرة الحريات، وقطع أرزاق العباد، وإشاعة الفساد المالي، والتفنن في إنشاء مصانع الأكاذيب واغتصاب عقول الشعوب وحشوها بتلك الأكاذيب، فهي لن ترى عيباً في النظر إلى الصحافي باعتباره سلعة رخيصة تُباع وتُشترى. بهذا المنطق المفسد عمد نظام المحفل الإنقاذي السوداني إلى شراء الصحف والقنوات الفضائية، وضيّق على الشرفاء من كتّاب الأعمدة والرأي حتى أضحى لا يكتب في صحف الخرطوم إلا من هو على استعداد للتأمين على الإنجازات المزعومة لمحفل الإنقاذ، والإشادة بشجاعته المتهورة في تحدي القضاء الجنائي الدولي، واستعداء الولاياتالمتحدة وحلفائها الغربيين، والاستخفاف بالعقل السوداني، وازدراء المواطن دافع الضرائب وصاحب الحق في اختيار من يحكمه. ليطمئن القارئ المذكور إلى اقتناعي العميق بأن ما أقوله وأكتبه هو تجارتي التي لا بوار فيها، لأنها تنبع من إيمان قوي بوطني وشعبي وهويتي الممزقة بين تعقيدات الانتماء إلى العرب وإفريقيا. لا بيع ولا شراء لهذا المحفل الدخيل، ولا لمحفل أي من الأحزاب السياسية والعقائدية والطائفية، ولا اصطفاف إلا مع الفقراء والأنقياء وضحايا الظلم والفساد. * صحافي من أسرة «الحياة». [email protected]