يحضّك معرض الفنان الصيني ساي جوو تشانغ «سراب» الذي يستضيفه «متحف» (المتحف القطري للفن الحديث) في الدوحة، على التدقيق في هويتك العربية وتاريخها ورموزها، ويفتح لك نوافذ واسعة لتربطها برموز المناطق الساحلية الصينية، وتحديداً مدينة شوان جو الصينية ذات الغالبية المسلمة، حيث ولد الفنان وترعرع. كما يُبدّد المعرض «السراب»، أي الوهم البصري باللغة العربية، بأعمال تركيبية حسيّة ومشهدية تجرّك الى مواضيع فلسفية تتعلق بالزمان والمكان، والواقع والخيال، والدائم والموقت. ويجعلك المعرض تسأل نفسك وأنت تجول بين أعماله المتنوعة بين الرسم بالبارود على الورق والسيراميك، والفيديو، والتجهيز الفني، وعروض المفرقعات الفنية، هل ما أراه موجود في الصين فعلاً؟ وهل الى هذا الحدّ تتشابه رموزنا ومهننا الحرفية وقصصنا الخرافية بتلك الآتية من الصين؟ لماذا تقولون إن بلاد العمّ ماو تسي تونغ بعيدة جداً؟ فها هي هنا معنا... وقد تشعر مثلاً وأنت في غرفة تجهيز فني بعنوان «لانهائي»، حيث تتأرجح 3 قوارب خشبية حقيقية بلطف وباستمرار على الماء، بأنك في حالة غموض، ثم تدخل في حالة سكون عميق، فتحسّ فجأة كأن ساحل شوان جو على مسافة خطوة واحدة منك... ثم تكتشف في التجهيز التالي بعنوان «مسارات»، حيث يتتبع تشانغ آثار طريق الحرير بين مدينته والخليج العربي، عبر مخطط كبير للنقل البحري أشبه بخريطة رسمت بنوع من البارود الذي فُجّر على ورق في عملية فنية تمثل استخدام وسائط التدمير في عملية بناء طريق تجريدي لماضٍ متخيّل في رسم بسيط، أن الفنان قرّب المسافات بين الهنا والهناك البعيدة، واختصر كل العصور في لحظات. ساي جوو تشانغ، المعروف بطرحه للمواضيع الاجتماعية استناداً الى الفلسفة والتاريخ الشرقيين والثقافة المعاصرة، يُقدم في معرضه الفردي الأول في العالم العربي الذي كلّفه به «متحف» (المتحف العربي للفن الحديث في الدوحة)، أفكاراً مبتكرة حول العلاقات والانفصالات بين الدوحة (ممثلة الخليج العربي) ومدينة شوان جو الواقعة على الساحل الجنوبي الشرقي للصين، وذلك باعتبارهما موقعين في العالم العربي والصين، وكأنه يُنشئ حواراً شرقياً شرقياً غريباً من نوعه. ونجد من خلال الأعمال الستة عشر التي كُلّف بها ل «متحف» خصيصاً، إضافة الى أكثر من 50 عملاً أنجزت في أماكن أخرى حول العالم، مع توثيق موسّع لعملية الإعداد الفنية التي سبقت هذه الأعمال الفنية، وتفاصيل لعملية تشكيل معرض «سراب»، أن تشانغ آثر أن يُبقي المعاني الفنية لكل هذه الأعمال التأملية والوجدانية مُبهمة. «العودة الى الوطن» تتساءل وأنت في البهو الخارجي للمتحف، في الهواء الطلق، عن سرّ 62 صخرة من الغرانيت البني زرعت أمام مدخل معرض «سراب» بشكل عشوائي؟ خصوصاً أنه نُقشت عليها عبارات عربية مألوفة وآيات قرآنية، تتمحور حول الحياة والموت، مثل «كل نفس ذائقة الموت»، «الدنيا أولها بكاء وأوسطها عناء وآخرها فناء»، «وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور»، «من مات غريباً فقد مات شهيداً»... لكن عندما تسمع تفسير صاحب المعرض تدرك أهمية المشهد. يقول تشانغ: «حاولت في هذا المعرض أن أربط بين الثقافة والتاريخ في مدينتي الدوحة وشان جو مسقط رأسي التي عرفت يوماً ببداية طريق الحرير البحري، وكانت تعتبر أكبر ميناء بحري في العالم خلال عصر أمبراطورية يوان (1271- 1368م)». ويضيف: «منذ عهد إمبراطورية تانغ (618- 907 م) أتى العديد من العرب للعيش في شوان جو ومات كثيرون منهم فيها حيث دُفنوا ومازالت أضرحتهم التي كتبت عليها هذه الجمل والآيات التي نقشتها هنا على هذه الصخور أمام المدخل، تشهد على ذلك». ويعتبر تشانغ أنه من خلال نقل هذه الصخور من مسقط رأسه الى الدوحة، أعاد هؤلاء العرب الذين توفوا في الغربة الى أوطانهم ولو معنوياً. والطريق التي سلكتها الصخور في «عودة الى الوطن» تُعاكس المسار الذي سلكه العرب الى الصين خلال العصر الاسلامي الاول، وتستنسخ في الوقت ذاته مسيرة الفنان كونه يعرض عمله في العالم العربي للمرة الأولى، بما يعكس عودته هو الى شوان جو ليبحث في تاريخها العميق. ويُهدي تشانغ هذا التجهيز الفني وتجهيزاً آخر بعنوان «الاحتفالية السوداء» المتمثّل بعرض فني لمتفجرات في الهواء الطلق قدمها ليلة الافتتاح بمساعدة عشرات المتطوعين، وتعرض حالياً على شريط فيديو، الى «جميع الذين وافتهم المنية خارج بلدانهم، خصوصاً أهالي شوان جو». ويقول: «إنها مسيرة ألفية تحاول مواساتهم بإعادتهم الى وطنهم، وابتهالاً لتنعم أرواحهم بالسكينة». ففكرة إنجاز ضريح من الدخان الأسود الناجم عن مادة البارود التي كان المسلمون العرب أول من استخدمها عام 690 ميلادياً في ثورة الزنج في البصرة، تسافر بزائري المعرض الى الماضي البعيد وتحرّضهم على البحث عن أمجادهم العربية القديمة، وعن تاريخهم مع الرحلات والتجارة. كما تستحضر تلك المفرقعات ذات الدخان الأسود، أفكار استكمال الرحلة والتحول والقوالب الزائلة. بين الرموز الصينية والعربية جمع تشانغ في «سراب» رموزاً ودلالات تعتبر «مقدسة» في العالم العربي والصين على حدّ سواء، وإن كان لكل رمز أسطورة مختلفة واستخدامات مختلفة، وذلك ليلمّح الى علاقة العرب بالصين التجارية والثقافية تاريخياً، فالبارود هو مادته الأساسية في رسم اللوحات، وقد اشتُُهر العرب كرواد في استخدامه في الحروب، كما اشتُهر اليابانيون (الفنان عشر سنوات في اليابان) ومن بعدهم الصينيون باستخدامه في المفرقعات والألعاب النارية وغيرها من الاستعمالات. ويشار هنا الى أن تشانغ اختبر خصائص مادة البارود في رسومه خلال إقامته في اليابان، حيث جرّب أن يبتكر عروضاً من المفرقعات على نطاق واسع، ثم طوّرها ليشتهر بهذا الفن الغريب والخطير في الوقت نفسه. وهو يهدف من تلك الأعمال المصنوعة من البارود الى «إقامة تبادل بين المشاهدين والكون الواسع من حولهم، استناداً الى قضايا اجتماعية معاصرة». كما استخدم موادَّ مثل الورق والسيراميك التي حملت رمزاً تاريخياً من بردى الى الأندلس عند العرب. وكان الخليجيون تحديداً يستوردون السيراميك الأبيض الذي استعمله تشانغ في لوحة «هش»، من مدينة شوان جو. ناهيك باستلهامه أعمالاً من الثقافة الاسلامية والخليجية التي يبدو أن لها دلالات في الثقافة الشعبية الصينية، والمثال على ذلك اللوحة المركبة بعنوان «99 حصاناً» المرسومة بالبارود على الورق، مستخدماً قبالتها 99 مجسماً صغيراً لأحصنة ذهبية تلقي بظلالها على اللوحة المرسومة. فالناظر إليها قد يشعر بأن المجسمات الذهبية في سباق محموم مع الأحصنة «البارودية» الظاهرة أمامه كأنها في الصحراء البعيدة. ويُفسّر تشانغ أن الرقم 99 يرمز في ثقافة شعبه الى اللانهاية، بينما يعيد الرقم صدى أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين في الثقافة الاسلامية. ويشير الى أن للحصان الذي خصص لتفاصيل حياته وولادته وتكاثره وتربيته فيلماً وثائقياً خاصاً صوره في قطر ويعرض في «سراب»، دلالة رمزية كبيرة في الثقافتين الصينية والعربية. ويمكننا القول إن تشانغ بجمعه بين عناصر صينية وعربية، يفتح مساحة فكرية أخرى للمشاهد ليسافر بها. فاستعراض الأعمال يأتينا من وجهة نظر الفنان نفسه. أما ما يظهر كأنه صورة نمطية في سياق آخر، فيظهر هنا وكأنه إعادة تركيز لأفكار حول روح المكان ورموز الهوية. وعلى سبيل المثال، نجد في تجهيز «الطيران معاً» حيث تتجمع الصقور مع جَمَلٍ في الهواء الطلق ما بين الأرض والسماء، رمزية الى دول الخليج حيث تكثر الصقور والجمال. ولكن يمكن المشاهدين التقدم خطوة إضافية في نسج قصة عن العلاقة الطموحة بين كلا الطرفي. مثلاً قد يعتبر المشاهد للتجهيز الفني أن الصقور قد تؤذي الجمل، أو تساعده، أو هي غير مبالية به... فأي من الحيوانين قد يمثل أمراً إضافياً مرة أخرى، بما يخلق قصة جديدة محتملة. وكل عمل يعرضه تشانغ هنا، يكشف علاقات حميمة محتملة تمنح في الوقت نفسه المشاهدين حرية تفسير الأمور على المستوى الشخصي. ساي جوو تشانغ يُقيم ساي جوو تشانغ المولود عام 1957، والذي تلقى تعليمه في تصميم المسرح في أكاديمية المسرح - شنغهاي، في نيويورك ويعمل فيها. وعُرف بمزجه بين الوسائط الفنية المختلفة، أي الرسم والأعمال المركبة والفيديو والعروض الفنية المتضمنة المفرقعات والدخان الناجمة عن استخدامه مادة البارود بشكل أساسي في كل إنتاجاته. نال جوائز عالمية عدة، منها «اليابان الثقافية للتصميم» عام 2005، و «الأسد الذهبي» في بيينالي البندقية ال 48 عام 1999، «هيروشيما الفنية السابعة» عام 2007، وجائزة الجمعية الدولية لنقاد الفن عن فئة أفضل مشروع في الهواء الطلق عن معرضه «براعم متساقطة» عام 2010. كما كرّمه في العام الماضي متحف ميتروبوليتان للفن بجائزة مبادرة تطوير الجماهير المتعددة الثقافات. عرضت أعماله في أهم المتاحف العالمية، منها «قوس قزح عابر» في متحف الفن الحديث في نيويورك، «الالعاب النارية داخل مشهد المدينة» في شنغهاي، «أريد أن أؤمن» في متحف سولومون غوغنهايم في نيويورك ثم في متحف الفن الوطني في بكين، و «ساي جوو تشانغ 1040 م تحت الأرض» في متحف مؤسسة أيزوليتسيا في أوكرانيا. ويعرض له متحف الفنون الجميلة في هيوستن «رسوم البارود الملحّمة» التي تعتبر من أضخم الأعمال المرسومة بالبارود حتى الآن، بصفة دائمة ضمن مشروع «البوابة».