يعود الشاعر والمترجم العراقي محمد النصار إلى بلده العراق بعد إن أمضى سبعة عشر عاماً في منفى بعيد هو كندا قبل أن يتنقل بين عمان وبيروت ويصدر ديوانه الجديد «ما لا يحتمله النص» عن دار الشؤون الثقافية في بغداد هذا العام. النصار هو واحد من فرسان جيل الثمانينات في العراق الذين يعدون الجيل الحقيقي الذي قدم قصيدة النثر الجديدة في العالم العربي في فترة الحرب العراقية - الإيرانية. وبسبب هذه الحرب التي قتل وشرد فيها هذا الجيل بالتحديد جعلت النقد العراقي يطلق على هؤلاء الشعراء «بجيل الظل» لأن النقد تجاهلهم كثيراً بسبب نصوصهم التي رفضت الحرب والديكتاتورية. أغلب الشعراء الذين ظهروا في بداية الثمانينات سيقوا إلى الحرب بعد إن أكملوا دراستهم الجامعية، وكان الكثير من شعراء هذا الجيل جنوداً قتل الكثير منهم وهرب الباقي إلى المنافي فكان الغبن مضاعفاً في حقهم، فقد أهملهم النقاد في الداخل خوفاً من المساءلة، وكان هروبهم إلى المنافي غياباً أخر يضاف إلى ذلك الإهمال. لهذا السبب قد يتساءل القراء اليوم عن بعض الأسماء الشعرية العراقية الممتازة التي تظهر اليوم من جديد إلى الساحة. يكتب النصار نصوصاً شديدة الكثافة تصل إلى درجة الحذف في اقتصادها اللغوي حتى كأنه يقطر لغته الشعرية بحيث لا يعود هناك غير المعنى المشذب إلى أقصاه، وفي هذا الديوان الذي يتناول العزلة والنأي والوحدة والعمى والفراغ يستخدم النصار تقنيات كتابية تعتمد على الحذف ليترك للقارئ فرصة لتدوين ما لم يرد الشاعر تدوينه، حتى إننا نجد في الكثير من النصوص بدل الأسطر فراغات كثيرة بين الأبيات الشعرية وهو ما يمكن إن نطلق عليه «تقنية المحو». العزلة والنأي عن العزلة والنأي يستنجد النصار بمشاهداته القديمة ولا نقول بذاكرته في تصوير حياته في المنفى لأنه هنا لا يكرر فعلاً قد عاشه ولكنه يعيد إنتاجه من جديد وفقاً لحالته الجديدة «داخل الفراغ اليائس / تتدافع الأمواج / تشبه الخيول / ويقفز فرسان نادمون / على أفعالهم / من اللوحة / التي لا تزال / تحاصر ذاكرتي / في هذا المنزل النائي «. في هذا المقطع القصير من قصيدته الطويلة «ولم يتبق لدي سوى عمى جمالها» يحاول النصار إن يختزل المشهد الكبير الذي يشكل عالماً كاملاً بقفز الفرسان من العالم ومن اللوحة التي تمثل هذا العالم بعد إن اجتاحته الأمواج والندم الذي أفضى إلى منزل ناء وغريب. هذا المشهد سيتكرر في الصفحات والنصوص التالية ولكن بتكثيف شديد من خلال تقنية المحو. «إلى بيتك أيها الغريب / دون أن تبالي شمس أكتوبر / فهاجر / إذ هذه الإبر المسمومة / تخيط باسمك مدناً / والأنهار تتصيد انتحارها / في عينيك / المندهشتين / قرب القوس النارية». يحذف النصار هنا في هذا المقطع الكثير من حروف الجر وأدوات الربط من اجل إن لا يثقل النص بالنثرية ويجعله متوتراً إلى أقصى حد حتى يشعر قارئ هذه النصوص بوجود فجوات في القصائد التي يقرأها لكن معرفة التقنية التي يكتب بها الشاعر تجعل القارئ يدرك مقاصد الشاعر. في التقنية نفسها نرى التكثيف ذاته في نصوص اقرب إلى الهايكو تفصلها فراغات أراد لها الشاعر أن تكون تعليقات لمن يقرؤها كما سنشاهد في قصيدة تناظر «يتقاسم الفجر الديكة / مع اللصوص .../ ينبح عابر سبيل / حينما تنهره غيمة شرسة .../ تتداعى البيوت / على أنهارها / ...» نلاحظ هنا في هذا المقطع القصير إن الشاعر كان يترك بين كل سطرين فراغاً ممثلاً بالنقاط ليترك للقارئ فجوة لكي يملآها بنفسه أو مساحة للتأمل ضمن تقنية المحو التي يعتمدها الشاعر في ديوانه هذا. في قصيدة «لهاث» وهي كابوس لا شك فيه يعتري شخصاً وحيداً يعيش في مكان غريب ناء نجد ذلك التكثيف الذي يلخص الحالة كلها في إطلاق النار على الكابوس من اجل التخلص منه ولو رمزياً طالما أننا لا نستطيع إن نتخلص منه عملياً «حينما تفتح الغيمة الوحيدة / النار على الكابوس / أهرع لتفقد الأفعى التي / يتعالى صليلها / في زوايا مهجورة / من بيتي النائي / منصتاً لشخص غريب / يطرق بابي المغمور بالثلج».