ليس الانقسام الذي رسمته الانتفاضة السورية خطاً مستقيماً يفصل بين طرفي المواجهة على نحو واضح وقابل للتمييز. ليس الانقسام بين منتفضين وشبيحة، فقط، ثمة نقاشات سورية تشي بغير ذلك. والتمييز هنا لا يسعى إلى عملية فرز بين القوى في سياق تحديد الأحجام، على نحو ما يفعل كثر من السوريين عندما يقولون إن بيئة المتظاهرين لا تضم أكثر من خمسة ملايين سوري، وبيئة النظام كذلك، وبينهما يرزح أكثر من نصف السوريين، صامتين وخائفين. هذا النقاش شهدته مصر، عندما قال مناصرون للرئيس المخلوع حسني مبارك إن هناك ما يزيد عن ستين مليون مصري لم يخرجوا إلى الشوارع. وشهدته تونس على نحو أوضح عندما خُصص اعتصام مستقل في العاصمة (اعتصام القبة) للقول بأن ثمة تونسيين من غير خامة المعتصمين في منطقة القصبة، يريدون تونس نفسها التي يريدها جماعة القصبة لكنهم يريدون أيضاً أن يستأنفوا حياة ما بعد الثورة، وهم أطلقوا في حينها على اعتصامهم اسم: «اعتصام بعد الشغل». في سورية مقدار من ذلك، لكن يضاف إليه ارتفاع حاد في منسوب الخوف الذي يسود مجتمع غير المنتفضين وغير المنخرطين في قمع الانتفاضة. إنهم السوريون الصامتون. الصامتون حقاً، الذين ما إن يخرج الكلام مقتضباً وحذراً من أفواههم حتى ندرك مقدار الهلع الذي يقيم في نفوسهم. ساعات طويلة مع هؤلاء تسمع خلالها جمل غير متصلة لا تكفي لتخيل أي سورية في قناعاتهم، لكنها تكفي لفهم ما هو جوهري أكثر. «لن تعود سورية إلى ما كانت عليه، فقد أريقت دماء كثيرة»، هذه العبارة الوحيدة التي قالها شاب من هؤلاء جلسة استمرت أربع ساعات، كانت حقيقية بما يكفي لفهم ما يعنيه. والشاب إذ يُجهل الفاعل في قوله «أُريقت»، إنما لا يفعل ذلك بمقدار من الخوف والحذر، إنما بنوع من التقية التي يمرر من خلالها رسائل وإشارات غير منضبطة في وجهة محددة. المهم أن ثمة «دماء أريقت»، فما الذي يفيده إذا حدد هوية مريق الدماء! ليس هذا محل ابتلائه، خصوصاً أنه يعرف هويته، وهو يشعرك بذلك من دون أن يدلل عليه. في كلام الشريحة السورية هذه الكثير مما يساعد على الاستدلال. هم ليسوا الأكثرية الصامتة، على ما يمكن أن نعتقد على نحو مبتذل. هؤلاء يعرفون ويقولون، أحياناً، إن النظام فاسد، وإنه هو من باشر العنف وذهب به إلى حدوده القصوى، لكنهم أيضاً يتساءلون عن هوية المعارضة. هي تخيفهم مثلما يخيفهم النظام. لا بل أكثر، ذاك أن عبارتهم الدائمة هي: «الظلم الذي تعرفه أهون من الظلم الذي لا تعرفه». للسوريين غير الصامتين ممن لم يشملهم خط الانقسام قابلية كبيرة للانخراط في الانتفاضة، لكن تحفظاتهم لا تبدو ثانوية، وأسئلتهم لم يجب أحد عليها. ما هي سورية التي يريدها المجلس الوطني؟ وماذا عن الأقليات وعن الفئات المتوسطة الأقل تضرراً من فساد النظام؟ ومن هي معارضة الخارج؟ ومن هم الإخوان المسلمون؟ ومن هم السلفيون؟ وماذا عن استيقاظ الطموحات المناطقية والجهوية ناهيك عن الطائفية؟ الأسئلة لا تحصى، وما يعيقها فقط أن النظام جائر حقاً، وأنه المسؤول الأول عن الدماء المراقة وعن مقتل حتى الجنود. واللافت في تساؤلات سوريين من بين هؤلاء أن ثمة لغة متينة يعتمدونها على رغم حاجتها إلى بعض المنطق. يقولون إن المجلس الوطني غرر بالمنتفضين في الشارع عبر إشعارهم بأن النظام سيسقط غداً، اندفع على أثرها شباب في المواجهات معتقدين أن النظام انتهى، فدفعوا في الأيام التي تلت أثماناً مضاعفة. من الواضح أن المجلس الوطني السوري الذي شُكل في الخارج لم يكترث لحساسية داخلية كان من الممكن أن يعوضها إشراك هيئة التنسيق الوطني المشكلة من أطراف المعارضة الداخلية. فهذه الشريحة الوازنة من غير الصامتين وغير المنخرطين في الانتفاضة السورية، والتي تشعر بأنها غير ممثلة في المجلس الوطني ليست بعيدة عن هيئة التنسيق، وسوريون كثر منها يشيرون إلى إقصاء الهيئة بصفته إقصاء لما تمثله من عمق داخلي. وما نعنيه هنا بعبارة «داخلي» ليس فرزاً بين الداخل والخارج فقط، إنما أيضاً سعياً للتمييز في داخل سورية. فالنظام أنشأ خلال أربعين سنة من الحكم مجتمعه وعلاقاته المعقدة والمتداخلة، وأخرج جماعات أخرى إلى هامش دورته ومنظومته، ونعني هنا الاجتماعية لا الأمنية. ما يمكن وصفه بالفئات المتوسطة كان جزءاً من ماكينة الدولة ومن دورتها الاقتصادية. وفي السنوات العشر الأخيرة، تضاعفت الماكينة وتضاعف التهميش. ويمكن والحال هذه فهم سرعة الانسجام بين المجلس الوطني وبين التنسيقيات المناطقية بصفته أحد أشكال الاحتجاج على إقصاء فئات واسعة في الداخل من مجتمع الدولة ومن ريوعها وعائداتها. المجلس الوطني السوري مشكل بالدرجة الأولى من قوى ضعيفة التمثيل في الشرائح المتوسطة الجديدة والقديمة ممن لم يقصهم النظام على رغم أنهم ليسوا شياطينه، لا بل إن قابليتهم لرفضه كبيرة، في حين تبدو هيئة التنسيق أقرب إلى هذه الفئات، وأقدر على تمثيلها ومخاطبتها. لا يمكن أن تستقيم سورية المرتجاة من دون السعي لضم هذه الشرائح، ومن دون طمأنتها، والخطوة الأولى في هذا الاتجاه تبدأ بالاعتراف بالمضمون التمثيلي لهيئة التنسيق، في ظل صعوبات الاقتراب من هذه الفئات في الداخل. وعلى المجلس الوطني أن يطرح على نفسه مهمة الإجابة عن تساؤلات جوهرية تتعلق بهواجس الداخل، لا سيما الجماعات التي ما زالت خارج الانتفاضة. سورية أعقد من أن نبسط مأزقها بخط الانقسام بين السلطة وبين المنتفضين، والنظام فيها أقام دولته واقتصاده وحزبه ومارس عنفه مستعيناً بالخريطة الاجتماعية والاقتصادية، في الوقت نفسه الذي كان يعتدي فيه على هذه الخريطة. من المفترض أن لا تستثني طموحات التغيير أحداً، لا سيما أن مؤشرات غير مطمئنة تلوح.