يقفل النظام السوري عن غباء أو توتر كل أفق لحل عربي عبر استهتاره بالمبادرة العربية واحتقاره للعرب والجامعة العربية برمتها وسياسات «اللف والدوران» وكسب الوقت وتقطيعه. ويدفع النظام الأزمة كلها إلى مرحلة التدويل الكامل عبر صلفه واستمراره في القتل والقمع مستدعياً التدخل الدولي كخيار وحيد. «الاندهاش» والنقمة الخطابية والتخوينية التي يشتم بها الناطقون باسم النظام كل من لا يتفق معهم تثير الرثاثة وتنبئ عن أشياء كثيرة. منها أن هناك «مفاجأة» ما بسبب مواقف العرب والآخرين، إذ كيف يمكن أن يقف أحد في وجه النظام وهو لا يقوم «سوى» بقمع الشعب كما تعود على قمعه سنوات طويلة ومن دون أن يعترض أحد؟ إذا انتهى الانسداد السوري إلى سيناريو التدخل الخارجي والتدويل فإن النظام هو المسؤول الأول والأخير، كما كان حال النظام الذي سقط في ليبيا. عندما توجهت كتائب القذافي إلى بنغازي بهدف إخماد الثورة الليبية وهي في أسابيعها الأولى كانت لديها تعليمات صارمة من «القائد» بالقضاء على الثورة والثوار بأي طريقة كانت حتى لو أدى ذلك إلى إزالة بنغازي وأهلها عن الوجود. هذا ما كشفه ضباط ووثائق بعد مقتل القذافي وسقوط نظامه. كانت كتائب «القائد» آنذاك تسابق اجتماعات مجلس الأمن الذي اتخذ في اللحظة الأخيرة قراره الشهير في 17 آذار (مارس) بتفويض حلف الناتو بحماية المدنيين. كانت عيون الليبيين في ذلك اليوم الحاسم مشتتة بين شاشات التلفزة تنتظر القرار ومداخل المدينة التي تقترب منها الكتائب المجرمة متوعدة الجميع بالولوغ في دمهم. وعندما تم التصويت لصالح القرار هتف أهل بنغازي بالتكبير وبعضهم سجد شاكراً في ساحة التحرير. لم يبق أمامهم من أمل سوى التدخل الخارجي. البديل الوحيد لذلك التدخل كان ماثلاً أمام عيونهم وهو أن تُراق دماء عشرات وربما مئات الألوف من الليبيين على أيدي مُستبد أعلن استعداده لحرق ليبيا وشعبها في سبيل أن تبقى مزرعة خاصة له ولأولاده. الذين يتأسفون على القذافي ونظامه الذي دمر ليبيا، وأهدر ثرواتها، وحوّلها إلى بلد مهزلة، يتمتعون بضمائر من خشب لا يهمها أن يُباد شعب بأكمله مقابل أن تبقى شعارات فارغة عن المقاومة والممانعة والصمود ضد الإمبريالية. الآن يتكرر الوضع في سورية «الممانعة». يريد النظام الذي يلغ في دماء السوريين يومياً أن يرضخ العرب، بجامعتهم وشعوبهم ورأيهم العام الكاسح، لمنطق الإجرام الذي يتبناه. تشتغل آلة قمعه الأمنية وجيشه على طحن الشعب الأعزل، وهو الجيش الذي لم يرَ أحد بطولاته على أي جبهة حقيقية من جبهات المقاومة والممانعة والصمود ضد الإمبريالية. يُقتل العشرات من السوريين يومياً، ويريد منا أنصار المقاومة والممانعة أن نقف مع الحكم ضد الشعب الأعزل المطحون، للإبقاء على النظام القامع لشعبه والحافظ لاستقرار إسرائيل. صلف الدكتاتوريين العرب والدمار الذي يتسببون فيه بات يتعدى الوصف. يتسابقون في زج بلدانهم ومجتمعاتهم والوجدان العربي بأكمله في انسداد تلو الآخر، مدمرين إجماعات وتوافقات وبداهات لم تكن تحتاج إلى نقاش. من كان يتخيل أن التدخل الخارجي الغربي وبقيادة حلف الأطلسي يصبح هو الحل الوحيد لإنقاذ شعب عربي من براثن حاكمه الدموي؟ أية عبقرية، أو بالأحرى إجرام حقيقي وأخلاقي ومبدئي، يتحلى به هؤلاء المستبدون يؤدي بالناس العاديين إلى الترحيب بالتدخل الخارجي لأنه المنقذ الوحيد؟ بشار الأسد حشر الشعب السوري، وكما فعل القذافي قبله في ليبيا، في زاوية ضيقة بالغة الصعوبة والمرارة، وأمام خيار وحيد يقول: ليس أمامكم سوى التدخل الخارجي أو أن تقبلوا القمع والطحن والموت اليومي الذي أفرضه عليكم برضى وتأييد أيضاً، خاضعين لي ولحكمي وبحسب شروطي، وبحسب دستور حزبي الذي أحكمكم باسمه والذي يقرر أن البلد إقطاعية لي ولبطانتي. وعليكم أن تلغوا عقولكم وافهامكم انتم وملايين العرب وغير العرب من ورائكم وتقتنعوا بالخيار الوحيد الذي أفرضه عليكم. واعلموا أن عدم قبولكم بخياراتي، وعدم قبولكم بي جاثماً فوق صدوركم للأبد، معناه أنكم عملاء للإمبريالية وأميركا والغرب وتؤيدون التدخل الخارجي. باختصار هناك معادلة مستحيلة تفرضها الأنظمة المستبدة وواجهتها وتواجهها الشعوب العربية في ثوراتها ضد دكتاتوريها: الموت وتأبيد الاستبداد أو التدخل الخارجي. في كل الحالات، خاصة ليبيا والآن سورية، هناك تخوفات عميقة ومشروعة من التدخل الخارجي ورفض واسع أسبابه التاريخية لا تحتاج إلى شرح وتفصيل. هذه المنطقة خسرت أكثر من قرن من الزمن بسبب التدخل الخارجي والسيطرة الاستعمارية. ثم خسرت ما يقارب قرناً آخر بسبب دكتاتورييها. دكتاتوريوها الذين جاؤوا بعد انقضاء السيطرة الاستعمارية حطموا بوصلات شعوبها وأربكوا أبجدياتها لدرجة أن هذه الشعوب صارت تستنجد بمستعمرها السابق كي يحميها من أنظمتها «الوطنية». الذين رفضوا التدخل الخارجي في حالة ليبيا ولم يقدموا بديلاً عنه للشعب الليبي آنذاك تُتاح لهم الآن فرصة ثانية لاجتراح بديل للشعب السوري وتقديم سيناريو يبعد خيار التدخل الخارجي والحماية الدولية. كان هناك بقية أمل في تفادي ذلك الخيار خلال الأسابيع الماضية، وقد ظل ذلك الأمل المتمثل في «الحل العربي» يقاوم كل محاولات الغرور والاستكبار التي يظهرها النظام. قدم الحل العربي وفي إطار الجامعة العربية فرصاً عدة للنظام، ومنحه وقتاً ثميناً وأسابيع طويلة، بأمل خضوعه لمنطق غير منطق القمع الدموي، لكن من دون فائدة. الرد الذي تواصل خلال أسابيع المهلة العربية كان المزيد من الدم والمزيد من القتل، بل ورفع معدلات القتل اليومي إلى أعلى مستوى على الإطلاق. كأن النظام أراد أن يوجه رسالة واضحة جوهرها الاستهزاء بالحل العربي ومن وراءه. اتهم الجامعة العربية وكل من فيها بأنهم عملاء للغرب، ثم لهث وراءهم كي يعقدوا قمة عربية بعد قرارات الجامعة بتجميد عضوية سورية. كيف يطلب النظام من جامعة كلها عملاء أن تعقد قمة يشارك فيها ويطلب منها الحل؟ القمع الدموي الذي يمارسه النظام مجموعاً إلى سياساته الصبيانية تقود إلى حشر الجميع في الزاوية الكريهة، زاوية التدخل الخارجي واستدعاء الحماية الدولية. كوارث الاستبداد والدكتاتورية لا يمكن حصرها وتعدادها، وقاسمها المشترك إنتاج الانسدادات والمآزق واغتيال التطور الطبيعي للحياة والشعوب والآن استدعاء التدخلات الخارجية. أنصار «نظام الممانعة والمقاومة» في دمشق يكررون اكتشاف درس ساذج يقول إن للتدخل الخارجي والغربي أجندات خاصة به. هذا الاكتشاف اليومي يثير الشفقة على مكتشفيه أكثر من أي شيء آخر، لأنه كمن يكتشف النهار في وضح الشمس. الدول الكبرى تتدخل بحسابات دقيقة، وتريد تحقيق مصالح من وراء كل خطوة تقوم بها. والتسييس الحقيقي، لا الطوباوي، يكمن في كيفية مواجهة تلك المصالح والأجندات وقطع الطريق على أن تكون في تحالف مع أنظمة دكتاتورية وباطشة على حساب مصالح الشعوب. في عقود طويلة ماضية كان أحد الملفات الساخنة التي تدين التدخل والسياسة الغربية بعامة ليس في المنطقة العربية وحسب بل وفي العالم أسره يتمثل في أن تلك السياسة متحالفة مع الحكام ولا تحفل بالشعوب. الآن لم يعد العالم بإعلامه وجمعيات حقوق الإنسان فيه يحتمل أن ينفرد حاكم بقمع شعبه. ولم يعد أولئك جميعاً يحتملون دعم السياسة الغربية الوقحة لأي حاكم مستبد. ولنا هنا أن نسجل أن أحد أهم إنجازات الثورات العربية يكمن في قلب المعادلة التي كان الغرب يتحالف فيها مع الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة، من دون أي اعتبار للرأي العام. هذه الثورات أجبرت الغرب وأجبرت كل تدخل خارجي على أن يكون في صالح الشعوب وليس في صالح الأنظمة. من المفيد ومن المهم أن يُعاد تركيب المصالح الغربية في المنطقة لتتوافق مع شعوب المنطقة ووفق ما تريده هذه الأخيرة، وليس على حسابها، لأن ذلك يُرسي علاقة مستقبلية صحية وندية بين الطرفين، لا تؤبد العداء. تُرى ماذا كان سيكون موقف كثيرين من أصحاب العُصابية المعادية للغرب من منطلق أيديولوجي بحت لو أن الموقف الغربي أصر على مساندة زين العابدين بن علي، أو حسني مبارك إلى آخر لحظة، وضد الثورات التي قامت ضدهما؟ هل كان ذلك أفضل؟ ماذا سيكون موقفهم لو أن الغرب الآن أعاد حساباته وقرر مساندة نظام الأسد لأنه حفظ استقرار إسرائيل على سبيل المثال؟ * أكاديمي، ومحاضر - جامعة كامبردج، بريطانيا [email protected]