ديموقراطية... في الإصلاحية؟ خطان مستقيمان لا يلتقيان. ففي الإصلاحية، قاصرون(منحرفون) تمرّدوا باكراً على حكم القانون واختاروا الطريق الأقرب الى الكسب السريع، ومن جهة أخرى إدارة لا تجد سوى النظام الصارم «سلطة» وحيدة لإعادة القاصرين الى السكة الصحيحة. مفهوم الديموقراطية لا يجد مكاناً له عادة، ضمن هذا النوع من المجتمعات الصغيرة، حيث يلعب الحدث دور المتلقي فقط: أوامر، إرشادات، موعظات ودروس مكثّفة في احترام القوانين. تلك هي الصورة التقلدية المعروفة عن الاصلاحيات. أما في مركز الإصلاح التابع للاتحاد اللبناني من أجل الطفل، فالصورة مختلفة. هنا وجدت حرية التعبير متنفساً كبيراً لها في واحة تستسهل الإملاءات، وفرض قواعدها الصارمة على الأحداث لتطوير سلوكهم الاجتماعي وإصلاحهم. هنا تحديداً تسمع للمرة الأولى مفردات تتداول عادة في أعرق الديموقراطيات... القاصرون يخططون لإعداد وثيقة «الحقوق والواجبات» في الإصلاحية، ويتحولون الى ناشطين في عملية «صنع القرار» داخل المركز، ويساهمون مع الإدارة في إحداث التغييرات الايجابية لمصلحة الطرفين. والنتيجة، تشجيع ممارسة الديموقراطية وتعزيزها ضمن الحياة اليومية للقاصرين في الإصلاحية. في هذه البقعة «المهمّشة» التي عادة ما تصنّف في خانة الاستثناءات داخل المجتمعات، سلك مشروع «شباب من أجل الديموقراطية» طريقه، ليقدّم نموذجاً نوعياً في مقاربة مفهوم الديموقراطية كأسلوب حياة، ويشكل قاعدة صلبة لاختبار هذا المفهوم في إطاره السياسي في المستقبل. والى جانب الإصلاحية تم اختيار مدرسة القديس يوسف في برج حمود (شرق بيروت)، كحقل تجارب مثمر في إغناء لغة التواصل والتعاون وتحمّل المسؤولية واكتساب المعرفة في مختلف جوانب الممارسة الديموقراطية، في إطار بيئة تعليمية «متواضعة»، تفتقر الى مقومات «الرفاهية» المدرسية المتوافرة في المدارس الخاصة. مجموعة «شباب من أجل الديموقراطية» تكونت من 25 شاباً وشابة من مشروع 3D (Droits, Devoirs, Democratie) أي حقوق، واجبات، ديموقراطية، إضافة الى متطوعين من جمعية «ألف» التي تعمل على رصد حقوق الانسان في لبنان وحمايتها، عبر نشاطات تختص بالتربية والتدريب. وتراوح أعمار المشاركين بين 17 و22 سنة، من مناطق وخلفيات دينية وأكاديمية متعددة. وبعد لقاء تحضيري للتعريف بمشروع «شباب من أجل الديموقراطية»، ودورة تدريبية استمرت ستة أيام، نشأت مجموعتان وضعتا خططاً لمشروعين، وأربعة نشاطات لنشر التوعية في مجتمعين مختلفين. اختارت إحدى المجموعات، العمل مع القاصرين في الإصلاحية، فيما اختار الفريق الآخر العمل مع تلاميذ الصف الثامن في مدرسة القديس يوسف. تقول غريس فوسكولوس، منسقة برنامج «شباب من أجل الديموقراطية»: «كان الهدف الأساس المساهمة في نشر مفهوم الديموقراطية في هاتين البيئتين، بطريقة عملية في الحياة اليومية، من خلال مجموعات من الشباب تدرّبوا على إدارة هذا النوع من النشاطات، فمارسوا هذا المفهوم الديموقراطي داخل فريقهم، ثم عمدوا الى تمرير هذه «التجربة» النوعية الى المجموعات المستهدفة في الإصلاحية وفي المدرسة». وتضيف فوسكولوس: «اختيار الإصلاحية استهدف العمل مع عينة من القاصرين الذين يواجهون مشاكل في احترام القانون وتقبله. أما مدرسة برج حمود، فالمنطقة بحد ذاتها لها خصوصية معينة لناحية المستوى الاجتماعي والاقتصادي، وغياب النشاطات الترفيهية...» في الإصلاحية، اقيمت حلقتا توعية مع الأحداث. الحلقة الأولى تضمنت التعريف عن المشروع وعن مفهوم الديموقراطية عبر نشاطات تفاعلية. أما الحلقة الثانية فهدفت الى تعميق مفهموم الديموقراطية، وتضمنت نشاطات متعددة كألعاب كسر الجليد وتمارين تقويم الحاجات وتحديد الأولويات لدى القاصرين ونشاط انتخابي. وتوضح سهى الجمّال، إحدى المتطوعات في «ألف»: «انطلقنا في ورشة العمل وفي ذهننا أفكار مسبقة عن هذه الفئة من الأطفال غير المتصالحة مع القانون، والمحرومة من الإحاطة العائلية ومن أبسط الحقوق. لقينا صعوبة في البداية، لكن لاحقاً أبدوا تجاوباً رائعاً معنا... لقد تمكنّا من تغيير شيء ما في حياتهم اليومية». أولويات القاصرين تلخّصت من ضمن ورشة العمل القائمة بثلاثة بنود: الانتخاب، المشاركة، وصناعة القرار بأساليب ديموقراطية. وفي نهاية النشاط، اتفق الأحداث على إنتاج وثيقة حول حقوق القاصرين وواجباتهم في الإصلاحية، وابدوا رغبتهم في تجديد الملعب الرياضي، وتنظيم عشاء ختامي للمشروع، وعرض الإنجازات المحققة. ووقّع مدير الإصلاحية والقاصرون على وثيقة «الحقوق والواجبات» في مؤشر حسي الى استمرار لغة التواصل بينهما. وانتخب الأحداث بالتعاون مع الشباب المتطوعين في جمعية «ألف» ثلاث لجان تنسيقية لتحضير النشاطات وتنفيذها. وتؤكد فوسكولوكس «أن مشاركة القاصرين في اللجان حمّلتهم المسؤولية، واعطتهم الفرصة ليكونوا جزءاً من عملية صنع القرار في الإصلاحية عبر الممارسة الديموقراطية. وهذا الأمر مفيد، ليس للقاصرين فحسب، إنما للبيئة التي تحيط بهم أيضاً». فيما يقول أحد الأحداث من الاتحاد اللبناني لرعاية الطفل «عندما شعرت أنني استطيع إحداث تغيير في الإصلاحية بدأت اتحمل المسؤولية». المشروع المنفّذ مع تلامذة الصف الثامن، تمحّور حول الديموقراطية في المدرسة والعائلة. في حلقة التوعية الأولى، عرض فيلم قصير عن مفهوم الديموقراطية في الحياة اليومية، تلته مساحة تعبير بالكلام والرسوم حول معنى الديموقراطية. وفي الحلقة الثانية، تم تنفيذ لعبة Rally Paper، قوامها أسئلة مرتبطة بالمواطنية والانتخابات والممارسة الديموقراطية في المنزل والمدرسة. وفي المحصلة، تم استعراض الأفكار التي انطلقت من كيفية جعل المدرسة «مكاناً أفضل» استناداً الى ما تمت مناقشته خلال حلقتي التوعية، وجرى انتخاب ممثل عن الصف الثامن بعد حملة انتخابية، الأمر الذي شكّل تجربة جديدة لبقية التلامذة ليكتسبوا الممارسة الديموقراطية في المدرسة. وبعد تحديد التلاميذ دور ممثل الصف، والتأكيد على اهميته في تحمّل المسؤولية وفي صنع التغيير من أجل المنفعة العامة، تم إصدار وثيقة «دور ممثل الصف» وقع عليها مدير المدرسة والتلامذة. وفي يوم الانتخابات حضّر سبعة مرشحين خطاباً وبرنامجاً انتخابياً، وصوّت تلامذة الصف الثامن لمرشحيهم في حضور المعلمين والإدارة. ثم انتخب تلامذة الصف السابع والتاسع مندوبيّن عن صفيّهم. تقول المتطوعة رنا كركي من جمعية «ألف»: «تمكّن التلامذة من التعبير بحرية عن آرائهم، والتقطوا الرسالة المباشرة عبر هذا المشروع. والأهم أن تواجدهم في بيئة مدرسية غير منصفة لهم بعض الشيء، لم يمنعهم من ممارسة القدر المطلوب من الممارسة الديموقراطية». عملية تشاور بين المندوبين الثلاثة المنتخبين والتلامذة، أفضت الى مشروع لتجديد ملعب المدرسة وتجهيزه بأدوات الرياضة، الأمر الذي شكّل وعياً أكبر لدى التلاميذ في إدارة أمورهم وإعطاء معنى أكثر انتاجية في محيطهم المدرسي. التحضيرات كانت صعبة في البداية، برأي أحد تلامذة الصف الثامن، لأنها كانت التجربة الأولى...الأمر استحق المحاولة لأن القدرة على التغيير هي مدخل للتحسين والتطوير. ويذكر أن الجمعية اللبنانية للتعليم والتدريب «ألف»، هي منظمة غير حكومية وغير دينية، مستقلة سياسياً، ويدخل في نطاق عملها النشاط المدني الذي يقوم به الشباب من أجل نشر ثقافة حقوق الانسان وتحسين مشاركتهم في إضفاء الطابع الديموقراطي وتعزيز حكم القانون. فيما تولّت وزارة الخارجية الاميركية - مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط، تمويل مشروع «شباب من أجل الديموقراطية».