خطبة عرفة ليست على أرض عرفة، تلك هي المعلومة التي غابت يوم أمس عن عددٍ كبير من الحجاج الذين اعتقدوا أن «نمرة» كلها عرفة. وسبب ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام خطب خطبته في وادي عرنة يوم عرفة ووعظ المسلمين وذكرهم ودعا وابتهل وصلى الظهر والعصر جمعاً وقصراً، ثم بعد الزوال انتقل إلى عرفة ووقف عند الصخرات. ولهذا فالسنة تقتضي يوم أمس أن يكون الوقوف في وادي عرنة إلى الزوال، ثم الانتقال بعد ذلك إلى أرض عرفة، حيث ركن الحج. وحيث وقف المصطفى عند الصخرات وقال: «هنا وقفت، وعرفة كلها موقف». وعلى ذلك فليست نمرة كلها في عرفة ولا الصخرات هي الموقف الوحيد، ومع ذلك فالحجاج لا تتناهى طموحاتهم ولا تكتفي بالأدنى القليل، ولو أن فيه من المشقة ما فيه، وفي ما يتعلق بجامع نمرة فالوصف الدقيق لا يقتضي أن يقال أنه في عرنة ولا أنه في عرفة، وذلك عائد إلى خاصية مميزة لهذا الجامع الذي تتجه إليه الأنظار مرةً واحدة في العام، وهو الجامع الوحيد الذي تلقى فيه خطبة لا تلقى في اليوم نفسه في أي مكان آخر من الأرض. تلك الخاصية هي أن المنبر والمحراب يقعان في عرنة وغالبية أجزائه الأخرى في عرفة، فالحد بينهما يمر عبر الجامع نفسه، وما إن انقضت الخطبة يوم أمس حتى تكاثف الضغط على الصخرات (جبل الرحمة)، إليه تتطلع الأعين في مشهدٍ روحي شغوف أصرت جموع الحجيج فيه على أن تتوجه بالدعاء إلى الله في الموضع نفسه الذي دعاه فيه نبيه الكريم واستجيب دعاؤه. وفي اللحظات التي تكتسي فيها الكعبة بحريرها الأسود، يشتمل جبل الرحمة برداء أبيض وكأنه صرح مشمخر في ذرى العلياء، أو كرجل مهيب على رأسه عمامةٌ ناصعة وفي عنقه قلادة لؤلؤية، في لوحة لم ترتسم منذ 1400 عام إلا هنا، حيث الرداء والقلادة والعمامة، على جسد جبلٍ يؤمه الخلائق، منذ أن دعا إبراهيم ربه بقوله: «واجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وأرزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون». يوم أمس مالت الشمس إلى تقبيل الثرى تحت أقدامهم ومضت، فهبطوا في إثرها يكفكفون دموع العبادة والفرح بالإنجاز العظيم، لينتظر منبر ومحراب نمرة، وليرقب جبل الرحمة تتابع الأيام وهو يتحرق شوقاً إلى عشاقه الأعزاء، والموعد نفسه بعد عام، لا يتقدم ولا يتأخر، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. ...و«عصرنة» القطار تخيب الآمال ب «بدائية» الوصول