في الثلاثينات من القرن الماضي حينما كنتُ طفلاً مثلك يا عزيزي وديع لم تكن لدينا أنترنت ولا هواتف نقالة. التلفزيون طبعاً لم نكن نعرفه. حتى المذياع كان علي أن أكبر قليلاً وأسافر إلى"الصويرة"لأكتشفه، هو وآلة التصوير التي سأقف أمام عدستها أول مرة في بداية الستينات. كل ما كان يتوافر عليه بيتنا الطيني الصغير في قريتنا المنسية وسط شعاب"الشياظمة"إضافة إلى الزرابي الصوفية الخشنة ووسائد الحلفاء القذرة التي كنا نسميها أثاثاً هو تلك المرآة الساحرة الي كانت تخفيها الجدة في صندوقها القديم ولم تكن تستخرجها إلا في الأعياد أو حينما تكون نساء البيت مدعوات إلى عرس في إحدى الدواوير المجاورة. كانت جدتي القاسية الغليظة الطباع تعاملني بعطف خاص. كانت تداعبني وهي تقبلني في فمي الصغير:"وأسير بغيت ليك العز يا زين الضحكة". اكتشفتُ مبكراً أن السِّر في الابتسامة. وكنتُ كلما غادرتِ الجدةُ غرفتها الصغيرة ذات الروائح المبهمة العتيقة تسللتُ إلى الصندوق. أستخرج اللوح الزجاجي السحري وأنعزل به في أحد أركان الغرفة لأتملى وجهي. أبتسم للمرآة مبتهجاً والمرآة تبتسم في وجهي، وأنا أفرح وأتذكر دعوات الجدة ثم أنساها، والمرآة تبتسم في وجهي وأنا أبتسم على صفحتها والأجنحة الصغيرة البيضاء التي تحلق بها الملائكة في سماء الله تنبت في غفلة من جسدي وإذا بي أحلق في سماء أخرى وأحرِّض شفتي على الابتسام. وكانت الجدة تحبني وتقبلني في فمي وتدعو لي بالعز:"وأسير بْغَيْت لِيكْ العزّْ يا زين التّبْسِيمَة". تلك الابتسامة بالضبط هي ما افتقدْتُه في وجه أبيكَ. أعرف أنه حكى لك عن قسوتي معه. لكنَّ أباك أيضاً ما كان مثلك ولا مثلي حينما كنتُ في سنك. كان طفلاً غبياً لا يكاد يتوقف عن البكاء. حينما يداعبه الكبار يبكي، وحين يلاعبه أترابه يبكي. حين تحمله أمه بين ذراعيها يبكي وإذ تضعه في سريره يبكي. لم يبتسم قط في وجهي يا وديع، تصور ذلك؟ أن تنجب طفلاً لا يبتسم في وجهك. ذلك الشغب اللذيذ الذي يتقنه الأطفال خصوصاً حينما يكون في البيت ضيوف والآباء يزجرونهم مُدَّعين الحنق فيما هم يتمنون في قرارة أنفسهم لو تمادوا لم يكن يصدر عنه. كان يبكي فقط وكأنه نَوْلُ عويل. وحتى حينما اشتريتُ له مرةً مرآة صغيرة لينظر فيها إلى وجهه ويتعلم على صفحتها الابتسام كسرها وجرح بزجاجها يده. وحين عدت إلى البيت ساعة الغداء وجدت جدتك المسكينة تصرخ وتولول وهو ينزف ويبكي. حملناه إلى المستشفى على جناح السرعة ومن يومها لم يعد ينظر إلى المرآة. لكنك يا وديع ابني وزهرة روحي. الابتسامة ذاتها التي كانت تفتن جدتي. الابتسامة العذبة المزهرة نفسها التي كنت أطالعها على صفحة المرآة في ذلك الزمن القديم أراها اليوم تشرق كشمس صغيرة على محياك. فكيف لا أحبك يا صغيري الجميل؟ كيف لا أحبك؟ أما أبوك فلا تهتم كثيراً لأمره. هل سمعتَهُ أمس يرغي ويزبد؟ قال إنني سأفسد أخلاقك وطلب مني أن أتركه يربيك بطريقته، فهو أبوك ويعرف مصلحتك أكثر من أي كان؟ هل تعرف لماذا لم أجبه يا وديع؟ لأن الكلام لا يجدي يا حبيبي، الكلام مع المساخيط لا يجدي. أنا الآن في السبعين والصحة خذلتني. تمنيت لو كنت في لياقتي القديمة لأعرِّي مؤخرته النتنة كما كنت أفعل معه وهو طفل فأُلهبها بالسوط. مرة جعلته ينام لأسبوع كامل على بطنه بعد أن تهرأت مؤخرته وصارت تبدو تماماً مثل خوخة خامجة. كان يستحق أكثر، صدقني، كان يستحق أكثر. لقد سمعتَهُ أمس. قال إنني أدلِّلك أكثر مما ينبغي وأنه يجب عليَّ أن أبتعد عنك قليلاً لأدعك تكبر كرجل. ومتى كان هو رجلاً؟ متى كان طفلاً أصلاً ليصير رجلاً؟ هل هناك أطفال لا يبتسمون؟ هو لم يبتسم قط في وجهي. لم يبتسم قط. واليوم لأنه صار عميداً في الأمن يريد أن يمارس عليَّ سلطته. لولا الشيخوخة وضعف الحيلة يا ولدي لما بقيت في هذا البيت ساعة واحدة. ولولا ابتسامتك. تلك التي تذكرني بطفولتي. بمرآة الجدة. بصندوقها الغامض الذي يشبه جراب الحاوي. وبروائحها الغامضة. كانت تقبلني في فمي يا وديع، تماماً كما أقبلك الآن، وتدعو لي بالعز:"وأسير بغيت ليك العز يا الفن يا المسرار يا زين التبسيمة". وأنا كنت أفرح بقبلاتها الدافئة وبوجهي في المرآة. آه يا حبيبي الصغير. لكأنني أرى وجهي القديم على محياك، فكيف أفارقك؟ والدك اشترى لي مصحفاً كبيراً بحروف بارزة، مسبحة، وسجادة صلاة، وفرش لي غرفة في السطح. يريد أن يعزلني عنك يا حبيبي. وكل مرة يلج غرفتك ويجدك في حضني، يدمدم: لماذا لا يصعد هذا العجوز إلى غرفته؟ لكنني أتجاهله يا وديع ولا أرد عليه. ماذا سأقول له ما دمت عاجزاً عن صفعه ودق عنقه؟ يتصورني شيخاً عجوزاً عليه أن يستقيل من الحياة وينتظر الموت أمام سجادة صلاة في غرفة بالسطح. وحده الجسد يهرم يا حبيبي الصغير. وحده الجسد يهرم. أما الروح فقد استعادت طفولتها عبرك. لقد استعدت طفولتي معك أيها الشيطان. كأنه الطفل القديم عاد إلى الحياة في إهابك. خذ قطعة الحلوى هذه والتهمها في الخفاء. لا تدعهم يرونك. غداً سأشتري لك غيرها. انتظر، سأشعل لك التلفاز. حان موعد سلسلة الرسوم. هل رأيت تلك العجوز الطيبة؟ إنها تشبه جدتي يا وديع. اقسم أنها تشبه جدتي. الملامح نفسها، الانحناءة نفسها، العكازة نفسها، واللمعة نفسها في العينين. لكأنها جدتي. لكن قل لي يا حبيبي الصغير، ألا ترى على الشاشة صندوقها الغامض القديم؟ الرباط