عشية انتخابات الرئاسة الاميركية نشرت "كريستيان ساينس مونيتور" مقالا طريفاً قالت فيه أن الانتخابات الاميركية في العام 2012 ستتتم على الأرجح "برعاية بيبسي كولا". هذه الصحيفة الرزينة لم تكن تمزح. وما قصدته هو بالتحديد ما قالته: الشركات العملاقة، ومعها أجهزة الاعلام والاعلان الاكثر عملقة ايديولوجياً وثقافياً التابعة لها، تكاد تصادر كل الفضاء السياسي - الفكري في الولاياتالمتحدة، وتحّول العملية الديموقراطية برمتها الى عملية تجارية بحتة. بالطبع، لم تكن هذه المرة الاولى التي تحذّر فيها القوى الديموقراطية - الليبرالية الاميركية من سطوة رأس المال على رأس الديموقراطية. والأرقام هنا تتحدث عن نفسها بنفسها: خمس شركات عملاقة تسيطر على 90 في المئة من صناعات الفضاء، والمكونات الالكترونية، والسيارات، والطائرات المدنية، والفولاذ والالكترونيات. خمس شركات أخرى تسيطر على 70 في المئة من السلع الاستهلاكية ذات الديمومة. خمس شركات غيرها تهيمن على 40 في المئة من النفط، والعقول الالكترونية الخاصة، والاعلام. 51 في المئة من أكبر الاقتصادات في العالم اليوم هي شركات لا دول. مبيعات 200 شركة تمثّل 28.3 في المئة من الانتاج الخام العالمي. هذه الأرقام تعني، ببساطة، أن الاقتصاد "ملكية خاصة" لحفنة من البشر قد لا يتجاوز عددهم عدد مجالس الادارة في واحدة من الشركات الخمس المذكورة أعلاه. واذا تذكّرنا هنا أن الشركات الكبرى باتت تمتلك كل شركات البيو - تكنولوجيا المنغمسة في كشف ألغاز الجينوم خريطة الجينات البشرية، فلن نجانب الحقيقة اذا قلنا أن البشرية أصبحت على أعتاب مستقبل استبدادي مخيف قد تهون أمامه عربدة كل الانظمة الاستبدادية مجتمعة في التاريخ. فالرأسماليون الجدد سيسيطرون على الطريقة التي نأكل بها، ونشرب بها، وندرس بها، ونفكر بها، ونحلم بها. لا بل سيسيطرون قريبا على طبيعتنا البشرية نفسها عبر إمساكهم بالجينوم البشري من خناقه. وبما ان غالبية هذه الشركات المتعددة الجنسية أميركية المنشأ والمولد، كان من الطبيعي أن تركّز جهودها على احكام قبضتها على المجتمع الاميركي على كل الصعد الايديولوجية والثقافية وبالطبع السياسية. الديموقراطيون الاميركيون وهؤلاء ليسوا كلهم بالضرورة في الحزب الديموقراطي يقولون الآن أن "الرأسمالية الجديدة" بدأت توجه الضربات القاتلة للديموقراطية على جبهات عدة دفعة واحدة: اذ هي بتدميرها سلطة الدولة - الأمة، تدمّر في الوقت ذاته البيئة الطبيعية التي نشأت وترعرعت في حضنها الديموقراطية على مدى القرون الثلاثة الاخيرة. وهي بمصادرتها القوة الاقتصادية للدولة ونقلها الى المستوى العالمي اي الى سلطة الشركات الكبرى متعددة الجنسية، تكاد الآن تفرغ هذه الدولة من مضمونها. وفي النهاية، ما نفع هذه الاخيرة اذا كانت عاجزة عن حماية مواطنيها في المجال الأهم الذي يعوّلون فيه عليها: الامن الاجتماعي، ومستوى المعيشة، ومنع تصدير الوظائف الى الخارج؟ ثم ان الرأسمالية الجديدة ترتكب الآن أكبر موبقة، من خلال تحويلها المواطن والمواطنية وهما من أعظم انجازات الديموقراطية الى مستهلك ونزعة استهلاكية. وهي تنسف الفرد - الانسان عبر تصويره بأنه مجرد مخلوق هائم على وجهه في غابة لا تعرف سوى الحروب وصراعات البقاء، في حين يفترض أن الفرد في النظم الديموقراطية هو ذلك المواطن الذي يعمل مع بقية صحبه المواطنين على اكتشاف كل ما هو مشترك وخيّر في المجتمع. لكن مهلا، عن أي رأسمالية نتحدث هنا؟ ولماذا انقلبت الرأسمالية فجأة من التوأم الملازم للديموقرطية الى عدو ملازم لها؟ في دراسة شيقة تحت عنوان "الديموقراطية والعولمة" يقول الباحث الاقتصادي جون راستون سول أن أخطر ما شهده العالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة، هو نجاح الاعلام الذي تسيطر عليه الشركات بتصوير الاقتصاد على أنه قائد المجتمعات، كل المجتمعات. وهذا كان تمهيدا لانقلابات كبرى في بنية النظام الرأسمالي. فقد سادت الاحتكارات، وانعدم التنافس، وسيطرت الاوليغارشيات المالية، بعدما استغلت الشركات الكبرى شعار الاقتصاد ككقائد للقيام بأضخم مركزة لرأس المال في التاريخ البشري، عبر عمليات الدمج والضم والابتلاع. وفي الوقت ذاته، كان أرباب النظام الرأسمالي يتوقفون عن كونهم "رأسماليين حقيقيين". فهم يتشكلّون الآن من التكنوقراطيين والبيروقراطيين والمدراء والموظفين. وهؤلاء جميعاً لا يملكون أي أسهم، ولا يقدمون على أي مخاطر. الأسهم الوحيدة التي يملكونها هي التي يحصلون عليها مجاناً من الشركات، أو عبر استعارة المال من هذه الشركات من دون فوائد. وكل هذه الفئات لا تعتبر رأسمالية حقيقية، بل هي بيروقراطية كسولة وكبيرة ومكلفة. وهي أقرب ما تكون الى دراكولا مصاص الدماء. اذ هي تشتري الشركات الرأسمالية الحقيقية التي لها مالكون حقيقيون لديهم أسهم، ويقومون بمخاطر مالية. وبعدها تبدأ هذه الفئات بمص دماء هذه الشركات. وفي خضم هذه العملية تتوقف الاقتصادات عن التطور، وتنهار الاقتصادات المختلطة لأن الشركات العملاقة تشتري شركاتها في وقت مبكر. وهذه العملية، اضافة الى فساد طبقة المدراء البيروقراطيين، هي الآن سبب كل من الأزمة الرأسمالية والأزمة الديموقراطية في الولاياتالمتحدة. هل هذه الانتقادات والمخاوف في محلها؟ بالتأكيد. لا بل الآتي أعظم، خصوصاً على الصعيد الاقتصادي، حيث لم يعد كثيرون يستبعدون أن تقود الرأسمالية الاحتكارية - الاستهلاكية الجديدة الاقتصاد العالمي الى كساد ليس بعيد الشبه عن كساد 1929. وماذا عن الديموقراطية؟ الصورة هنا قد تكون أكثر قتامة. ويكفي للدلالة على هذا الامر أن العديد من المحللين الديموقراطيين الاميركيين باتوا يطلقون على الرأسمالية الجديدة اسم "الاصولية الاقتصادية المتوحشة"، تيمنا بالأصوليات السياسية - الايديولوجية المتوحشة، التي لا تؤمن بغير الدمار والحروب. المعقل "التنفيذي" الرئيسي لهذه الاصولية هو البنتاغون، وبالتحديد هيئة الاركان الاميركية المشتركة التي لا تنفذ الحروب فقط، بل "تخترعها" في بعض الاحيان لإبقاء عجلة المجمع الصناعي - العسكري الضخم دائرة. وكي لا يبقى كلامنا مجرد ثرثرة في الهواء الطلق، لنتوقف قليلا امام المعلومات المذهلة التي نشرها قبل أيام المحقق الصحافي جيمس بامفورد في كتابه الجديد عن البنتاغون وكوبا. فهو قال ان القادة العسكريين الاميركيين وضعوا في أوائل الستينات من القرن العشرين خططاً لتنفيذ عمليات ارهابية واسعة النطاق في العديد من المدن الاميركية، اضافة الى خطف طائرات اميركية ونسف سفينة اميركية قبالة السواحل الكوبية. وكل هذا بهدف تبرير غزو كوبا لإطاحة فيدل كاسترو. ولو لم يعترض الرئيس جون كينيدي الذي تم اغتياله لاحقا على هذه الخطة التي أشرفت عليها سراً وكالة الامن القومي الاميركي، لتم تنفيذها بحذافيرها. هل يذكّرنا هذا بشيء؟ أجل. انه يذكرنا بنظريات المؤامرة المنتشرة على نحو كثيف في العالمين الاوروبي والعربي، والتي تقول أن أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن كانت عملية داخلية أميركية تم تنفيذها بأدوات خارجية، عبر التغرير بعناصر عربية وتسهيل مهمتهم داخل الولاياتالمتحدة. والاهداف في أيلول 2001، لا تختلف بشيء عن الاهداف في أيلول 1962: توفير الذرائع لشن حروب واسعة، لكن هذه المرة في الشرق الاوسط الكبير وسائر أنحاء العالم، اضافة الى تحقيق "مكاسب" اخرى لا تقل أهمية: 1- الإعلان عن ولادة عدو جديد الاسلام الاصولي يفترض ان يحل مكان الشيوعية كعامل تخويف للاميركيين. وهذا هدف كان يتم التخطيط له منذ العام 1989 على يد فريق عمل برنارد لويس وصموئيل هانتينغتون وامتدادتهما من اليهود الاميركيين في البنتاغون. 2- العمل وهنا الأهم على بث الروح مجددا في القومية الاميركية التي أوهنتها جملة عوامل، منها الخلل الديموغرافي الخطير بين البيض البروتستانت والخلاسيين الاسبان والسود وباقي العناصر غير الاوروبية، ونهاية الحرب الباردة، وضعف حماس الشعب الاميركي للحروب مع صعود التحديات الاقتصادية للعولمة. أحداث 11 ايلول حققت بشطحة قلم واحدة كل هذه الاهداف، ناهيك عن انها اطلقت يد المجمع الصناعي - العسكري لشن حروب عالية الوتيرة في أفغانستان والعراق، ومنخفضة الوتيرة في قوس ضخم يمتد من غرب افريقيا الى جنوب شرقي آسيا. كتب اناتول ليفين، في دراسة بعنوان "تشريح للقومية الاميركية": "التأثيرات السياسية لأحداث 11/9 كان أشبه بتأثيرات مخدر المتعة - الاغتصاب دي أر دي. فالمواطنون الاميركيون خسروا عملياً الإرادة على إبداء المقاومة السياسية. وهم أسبغوا على رئيسهم غير المنتخب بوش قوة وحكمة لا يملكهما. انهم تخلوا عن الاحكام النقدية واستسلموا لسياسات كانوا يمقتونها. وهؤلاء الذين في السلطة، وهم كناية عن ايديولوجيين لا يمثلون التيارات الرئيسية في اميركا، أفادوا بالكامل من الفرص التي أتاحتها أحداث 2001". هل يبدو ليفين وكأنه يقول: لو لم تخلق أحداث 11 أيلول، لتوجب خلقها على يد اليمين الاميركي المتحالف مع جنرالات الجيش والصناعة العسكرية؟ حسنا. انه لم يقلها مباشرة. لكن أي قراءة لاحداث 2001 في ضوء أحداث 1962، تدفع الى هذا الاعتقاد. وعلى أي حال، حين تصبح بيبسي كولا على نحو مجازي هي المشرفة على الديموقراطية الاميركية، هل يكون من المستغرب بعد على نحو واقعي أن تتحّول هذه الديموقراطية بالنسبة الى المجمع الصناعي العسكري الاميركي، مجرد مناسبة لدفع الاميركيين الى معاقرة مخدر المتعة - الاغتصاب؟